فيلم لنيكولا ويندينغ ريفن
« دريف » السائق.. القتــلة.. العشيقة وزوجها
تلك العلاقة التي ستنشأ بين المشاهد وفيلم Drive «دريف» المعروض حالياً في دور العرض المحلية، لها أن تكون ملتبسة بعض الشيء، متعرجة تفضي إلى تلك النهايات التي تصرخ بالمشاهد بشيء من المحاكمات المنطقية، وانقسام الأفلام إلى نهاية سعيدة وأخرى حزينة وما إلى هنالك من كليشهات لها أن تصحو مع التعامل مع هذا الفيلم بوصفه فيلم «أكشن» سرعان ما يصبح غارقاً بالدماء. هذا التقديم، واستخدام كلمة «دريف» بدل «قيادة» لئلا تقدونا تلك الكلمة إلى قيادات أخرى غير قيادة السيارات، له أن يكون متحالفاً مع مخرجه الدنماركي نيكولا ويندينغ ريفن، الذي نال عنه جائزة أفضل مخرج في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي، بحيث تحضر بدايته ونحن نرى شخصية الفيلم الرئيسة التي لا اسم لها سوى «السائق» أو«الدرايفر» (رايان غوسليك) وهو يتحدث بالهاتف مع أحد ما ويقول له : إنه سينتظر لخمس دقائق فقط وبعد ذلك سيمضي، وهذا ما سنراه متجسداً، وقد وضع السائق ساعته على المقود، ومعه جهاز «لا سلكي» يتيح له سماع مكالمات وتعليمات الشرطة بخصوص العملية التي يقوم به. بالفعل ينتظر لخمس دقائق أمام مكان ما يقوم اثنان بسرقته، ويخرجان، ويمضي بهما قبل وصول الشرطة بثوانٍ، ومن ثم تتم مطاردة السيارة التي يجري التعرف إليها، ونحن نسمع ذلك من خلال التنصت على اتصالات الشرطة، وينجح السائق بمنتهى الهدوء والثقة في تضليل سيارات الشرطة ومن ثم الطائرة، من دون أن يتبادل كلمة واحدة مع من معه في المقعد الخلفي.
بداية مشجعة تدفع المشاهد لأن يقرر مواصلة المشاهدة على مبدأ الـ10 الدقائق الأولى التي عليه أن تمسك بتلابيبه، وتبقيه ملتصقاً بمقعده، ولتكون في «دريف» حاضرة من الدقيقة الأولى، وكل ما نشاهده في البداية يعدنا بفيلم «أكشن» مصنوع بحنكة بصرية عالية، ولنشاهد السائق بعد ذلك بزي شرطي، ولنعتقد لثوانٍ أنه شرطي في النهار وسارق في الليل، لكن ذلك غير صحيح، فهو لا شيء إلا سائق سيارات، وزيه هذا ليس إلا لدور يؤديه في فيلم، كونه يعمل «دوبلر»، يقوم بتولي القيادة بدلاً من أبطال الفيلم في المطاردات الخطيرة، ولنراه يقوم بتصوير مشهد يتمثل في قيادته سيارة شرطة لتنقلب به، كما أنه يعمل ميكانيكياً لدى شانون (برايان كرانستون)، ويسعى الأخير لخوض غمار سباقات السيارات من خلال السائق والحصول على تمويل لذلك من قبل بريني (البرت بروك) الذي سيكون «غانغستر»، وإن لم يقل لنا ذلك في البداية، كما الحال مع أخيه نينو (رون برلمان).
في ما تقدم أشياء عن شخصية الفيلم الرئيسة وشخصيات أخرى، لكن علينا أن نضيف إلى السائق صفات مثل: الصمت، قلة الكلام، واستخدام أي إيماءة أو حركة لها أن تفي بالغرض بدل الكلام، كما أننا لن نعرف أي شيء عن خلفية هذا السائق، ولا حياته السابقة، التي لن تكون على سبيل المثال طفولة مثالية وحياة مستقرة رغيدة افتراضاً، فهو سرعان ما سيتعرف إلى جارته ايرين (كاري ماليغان) وابنها، التي ـ أي ايرين ـ يكون زوجها في السجن، وهنا سنكون بصدد البناء لحبكة الفيلم الرئيسة، فزوج ايرين ستاندرد (أوسكار اسحاق) سرعان ما سيخرج من السجن، من دون أن تتحول علاقة السائق بايرين إلى حب جارف، فهو أي السائق يبقى مستمتعاً بعلاقته مع ايرين وابنها، كلاهما معاً، رحلات ونزهات وذلك الدفء الذي تتيحه عائلة، وله أن يقول في الجزء الأخير في الفيلم إن ذلك أجمل ما حدث له في حياته.
ستاندرد زوج ايرين سيخرج من السجن ويستحضر معه مشكلاته، إنه مدين لعصابة بمبلغ من المال، وعليه أن يقوم بعملية سطو لمصلحة تلك العصابة لئلا يتعرضوا لزوجته وابنه، وعلى هدى ذلك سيتورط السائق معه، لا لشيء إلا لإنقاذ ايرين وابنها، وهنا سيعود السائق إلى الدقائق الخمس، لكن ذلك لن ينجح، ستكون النتيجة كارثية، واعتباراً من فشل عملية السطو سيدخل الفيلم في نفق طويل من القتل والقتل المضاد، وسنكتشف الجانب الحقيقي من بريني ونينو ونحن نخوض في بحر متلاطم من الدماء.
المدهش في فيلم «دريف» هو سرده، وتلك اللقطات ومعها زوايا الكاميرا، وللمونتاج أن يتكلم ويأخذنا بإيقاعه، وليست الإضاءة وحدها ما يدفعني للتعامل معه، كما لو أن «فيلم نوار» Film Noer ربما شخصية السائق نفسها ومن ثم القسوة، والعلاقات الملتبسة، وصولاً إلى ما يأخذني أيضاً إلى تارنتينو لكن على شيء أقرب لـ«خزان الكلاب» Reservoir Dogs تحديداً مع الجزء الأخير من الفيلم والمضي خلف نهايات تراجيدية مفتوحة على مصراعيها أمام سلسلة من الميتات، أو القتل الذي سيطال كل من فتح أبواب جهنم وقد كانت موصدة لحين، حيث الصراع الدرامي لن يحل إلا بهكذا قتل يوقظ صمت السائق ويحوله مباشرة من الصمت إلى الفعل، فمن يفعل لا حاجة له إلى الكلام، وهو في صراعه مع كل الذين يقتلهم لا يدافع إلا عن الحياة الطبيعية التي كان يتوق أن يعيشها، حياة أم وابنها، وبعيداً عن حبه للأم ايرين، الحب الذي لم ينغمس به تماماً لا هو ولا هي، ولم يتجاوز الأمر بينهما تبادل القبل في مصعد سرعان ما ينقطع بإقدام السائق على قتل من برفقتهم في المصعد بمنتهى الوحشية.
نيكولا ويندينغ ريفن يعدنا بالكثير، وبالعودة إلى «برنسون» 2009 فيلمه السابق على «دريف» حيث التمركز حول شخصية برنسون والسجن ومسرحته سيكون «دريف» انتقالاً إلى سياقات أخرى، ففي «برنسون» تحضر الأسطورة كما لو أنه خارج من فيلم للإنجليزي بيتر غرونواي «الطباخ، اللص، زوجته وعشيقها»، وكل ما يطمح إليه برنسون هو الشهرة التي يصنعها وهو محكوم بالسجن لسبع سنوات، بينما السجانون يفعلون المستحيل لترويض عنفه وما من فائدة، وهو يخاطبنا كما يفعل بجمهور أمامه وهو على خشبة المسرح، بينما يكون علينا في «دريف» ان نمضي مع قيادة السيارات وبسرعات جنونية للإطباق على القتل الوقائي، بحيث يصبح الوقائي مجزرة أو نهاية تراجيدية إغريقية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news