« النهاية » بدايات مشرقة و« أســـماء » تحت رحمة الإيدز
تضع فيلماً في مواجهة فيلم آخر وتضيف إليهما آخر، هذا يحدث تماماً حين يكون الأمر مدعاة للتنقل بين تجارب كثيرة، منها ما يكون في أولى تجاربه، وهنا يظهر من بين الأفلام المشاركة في مسابقة «آفاق جديدة» في «ابوظبي السينمائي» فيلم «النهاية» للمغربي هشام العسري في أولى تجاربه الروائية الطويلة، وفيلم «أسماء» للمصري عمرو سلامة الذي سبق له أن قدم في 2008 «زي النهاردة» وصولاً إلى وثائقي الجزائرية صافيناز بوصبايا «إل غوستو» (المزاج)، المشارك في مسابقة الفيلم الوثائقي.
سيكون تعقب أفلام الأسماء الثلاثة المذكورة تنقلاً محفوفاً بالانعطافات وربما المنزلقات، بحيث سيكون علينا أن نمضي مع هشام العسري نحو فضاء تجريبي ونلاحق مع عمرو سلامة مصير أسماء المصابة بالإيدز، بينما يفتح «إل غوستو» الباب على مصراعيه أمام موسيقى وتاريخ الجزائر.
حياة مقلوبة
سيضعنا «النهاية» من البداية أمام حياة مقلوبة رأساً على عقب. حسناً! سنقول ها نحن حيال شارع مقلوب وسيارات تمضي عليه مقلوبة أيضاً، ومع مواصلة تتبع ذلك سنكون حيال «كاميرا ذاتية» بمعنى أننا نرى وفق شخصية الفيلم الرئيسة، والتي تكون على سقف إحدى سيارات موكب للشرطة تمضي به مسرعة، إلى أن يصل مكاناً مخصصاً لإتلاف المخدرات، حيث سيقوم بالصعود إلى سطح المكان الذي تتلف فيه ويبدأ باستنشاقها، ونحن بدورنا سنستنشق سرداً مأخوذاً تماماً بالرمزية وبالاتكاء على مشروعية سينمائية تأتي من جهات عدة، لن تجتمع إلا في سياق يمسك به العسري بحنكة وثقة، والمساحة متاحة تماماً للعب وغوايات اللقطات، وان استعادة الفيلم كتابة هنا لن تكون بقادرة على الاطباق على كل تلك اللقطات البديعة التي قدمها العسري في الفيلم، لا بل إن الكتابة عن البنية العامة للفيلم ستكون بمثابة شيء علي فعله في الكتابة فقط، أما أثناء المشاهدة فالأمر متروك لمتعة بصرية تلقتيها بعينين مفتوحتين على اتساعهما.
تتأسس بنية الفيلم على مفردات بصرية لن تكون الشخصيات إلا إحدى مفرداتها الرئيسة، ومعها تحضر الكلمة المفتاح «السلطة» وعسف كل أنواع السلطات، وإن كان لنا أن نختزل ما يدور عنه الفيلم من خلال الشخصيات فإنها ستكون على النحو التالي: الضابط العنيف وزوجته المقعدة، العاشق، العاشقة وأخوتها كما لو أنها محاكاة لعنوان غرونواي.
العاشق يعمل في مراقبة مواقف السيارات مدفوعة الأجر، الضابط يتعقبه على شيء من الوصاية عليه واستخدامه كمخبر، المرأة مقيدة بالسلاسل والتي لن تفارقها حتى نهاية الفيلم، أخوتها كما لو أنهم فتية «البرتقالة الآلية» أو «غانغستر» خارج من رحم «الكوميك»، يقومون بالسرقة والسطو، ويقفون ضد العاشق ولعل تلك السلاسل التي لا تفارق أختهم من صنيعهم.
مع تلك الشخصيات سنكون حيال فيلم بالأبيض والاسود، المدينة مهجورة ولها أن تكون افتراضية، لكنها لن تبقى كذلك مع نهاية الفيلم، ولعل وضع قيد على عجلة سيارة سنجد له امتددا في كل ما نراه، فالكل في النهاية تحت رحمة القيد، ضحايا وجلادون، قيد السيارة، العاشقة وسلاسلها، زوجة الضابط وقيد الكرسي، وصولاً إلى القتل على طريقة تارنتينو على يد الضابط الذي يفترض بأنه جثة، إلى أن يقفز الفيلم فجأة إلى مستوى واقعي وتاريخي ومفصلي في تاريخ المغرب ألا وهو موت الملك الحسن، وهنا سيفتح الباب مجدداً أمام مستوى جديد، سيضع كل ما شاهدناه في سياق متصل مع النهاية.
هشام العسري في فيلمه الأول يأخذنا إلى ما نتوق إلى مشاهدته في التجارب السينمائية العربية، أو ما نفتقده فيها، إنه موهبة خاصة جداً، تعدنا بالكثير ومتميزة بكل الجرأة لأن تقدم لنا مقترحاً جمالياً له أن يضيف الكثير إلى التجارب السينمائية العربية.
سرد بصري
بالانتقال إلى فيلم عمرو سلامة «أسماء» سنكون على الضفة الأخرى، هنا يكمن الرهان على الميلودراما مع مسعى واقعي لسرد قصة لها أن تكون على اتصال بإشكالية متعلقة بما هو عليه المصاب بمرض الإيدز في المجتمع المصري، الأمر الذي يمتد ليكون حالة عربية وشرقية بامتياز، فما ان تقول «مصاب بالإيدز» فإن الإدانة حاضرة، مع حضور الهلع المتأتي من الجهل.
عمرو سلامة يقدم لنا في سرد بصري متناغم ومحكم قصة أسماء (هند صبري) الأم لابنة وحيدة تعمل عاملة تنظيف في المطار، وسرعان ما سيضعنا الفيلم أمام مشكلتها الرئيسة المتمثلة بضرورة إجرائها عملية للمرارة الأمر الذي تكون في صدد القيام به لكن حين معرفة الأطباء بأنها مصابة بالإيدز فإنهم يطردونها، وهنا يكمن الصراع الأكبر الذي تعيشه، كون ما يتهدد حياتها ليس الإيدز بل ضرورة إجرائها العملية.
يمضي الفيلم في زمنين، الأول مسعى أسماء للحصول على مساعدة في خصوص عمليتها، والثاني «فلاش باك» يسرد لنا حياتها في القرية وزواجها، ومن ثم إصابة زوجها بالإيدز. وليكون هذا المستوى مسعى للإجابة عن الكيفية التي انتقل بها المرض، السؤال الذي يمثل معبرا لتعامل المجتمع مع المصابين بهذا المرض، والذي يسبق فيه على الدوام الحكم الأخلاقي على الإنساني، في تغليب للقيم المعلبة والمعدة مسبقاً على قيمة الحياة، وفي ذلك يكمن رهان الفيلم الرئيس، أو رسالته إن صح الوصف، وليظهر صراع آخر يتمثل بتردد أسماء في الظهور على التلفزيون والحديث عن مشكلتها، وحين تقبل فإنها تواري وجهها ثم تقبل اظهاره، وتحظى بتبرع يأتي من زوجة مذيع البرنامج، لنكون أمام نهاية سعيدة.
لكن مهلاً، سيقول لنا الفيلم إن ذلك لم يحدث في الواقع أي ان أسماء التي كما يقول لنا الفيلم إن أغلب ما نشاهده هو من قصة حقيقة، لم تظهر وجهها في التلفزيون ولم تنل أي تبرع وماتت لأنها لم تتمكن من إجراء عملية المرارة، كما سنقرأ بعد نهاية الفيلم.
هنا المشكلة، إنها في نهاية فيلم «أسماء»، والسؤال الذي يحضر بقوة، لماذا إذن علينا أن نشاهدها في الفيلم وقد نالت كل ما تريده، وبما يدفع أيضاً للقول: اللعنة على النهاية السعيدة التي تخون مصائر من نسرد قصصهم! فالنهاية لا تنسجم مع رسالة الفيلم السامية، ثم هل تغيير الواقع؟ هل يلقى حقيقة من يصرح بنفسه أنه مصاب بالإيدز بهذا الإعجاب كما سنرى في الحي الشعبي الذي تسكنه أسماء؟ إنه واقع صادم فلماذا لا تكون نهايته صادمة أيضاً، ربما علينا التفكير بشباك التذاكر وإلحاقه بلعنة أيضاً.
وثيقة جمالية
ختاماً تأتي الموسيقى مع فيلم صافيناز بوصبايا «إل غوستو» (المزاج)، تأتي من القصبة في الجزائر العاصمة، ونحن حيال موسيقى «الشعبي» وليكون الفيلم وثيقة جمالية تتعقب تلك الموسيقى في أزقة القصبة، ومن ثم تلاحقها تاريخياً وحال من كان يعزفها ويغنيها، إلى أن يجتمعوا مجدداً بعد أن تفرقوا.
فيلم بوصبايا مدعاة للاحتفاء، فهو يبدأ من شراء مخرجته مرآة من أحد الباعة في القصبة فإذا به يكون من أعضاء فرقة «الشعبي» مع أسطورة الموسيقى الجزائرية الحاج محمد العنقا، ولعل تتبع المخرجة لتاريخ هذه الموسيقى وروادها سيمنحنا وثيقة جمالية لتاريخ هذا الموسيقي وتاريخ الجزائر أيضاً إبان الاحتلال الفرنسي والاستقلال وما بعده، إنها الجزائر التي ستكون موسيقاها مزيجاً بين الأندلسي والبربري، وعازفوها ومغنوها هم عرب وبربر ويهود جزائريون، منهم من لم يعد إلى الجزائر بعد الاستقلال، والجانب الديني في هذه الموسيقى والأغاني سيكون مزيجاً بين الإسلامي واليهودي. فيلم صافيناز بوصبايا يضعنا أمام جماليات خاصة، وإن كنا حيال مقاربته وثائقياً فإنه وثيقة لن تكون موسيقى «الشعبي» إلا أجمل ما يمكن أن يوثق للجزائر، وصولاً إلى «إل غوستو» اسم الفريق الذي يعاد تشكيله من الموسيقيين الذين كانوا رواداً في أربعينات القرن الماضي.