«هلأ لوين» و«عمر قتلني».. يــا زمان الطائفية
يعتمد ما أقدم إليه في ما يلي على مقاربتين مختلفتين تماماً لما لنا أن نسميه فهم الآخر ومشكلات الهوية المتأتية من الانتماءات الدينية، ولعلي ومن خلال فيلمين عرضا في الدورة الثالثة من مهرجان ترابيكا الدوحة السينمائي التي أنهت عروضها وفعالياتها أمس، سيكون الاستثمار في الطائفي والديني على أشده، بينما ينفتح الفيلم الآخر على سوء الفهم والعنصرية والعداء للآخر وغير ذلك مما يقدم في سياق درامي محكم.
أبدأ مع فيلم المخرجة اللبنانية نادين لبكي «هلأ لوين» الذي عرض للمرة الأولى في منطقة الخليج العربي ضمن برنامج العروض الخاصة، إذ يمضي الفيلم نحو صيغة السؤال الماثلة في عنوانه، الذي نجد إجابة عنه في نهاية الفيلم لكن سرعان ما يجري التخلي عن تلك الإجابة والاستعاضة عنه بسؤال الفيلم نفسه «هلأ لوين» وبالفصحى «الآن إلى أين؟».
على بداية الإشارة إلى أن الفيلم حقق نجاحات كبيرة في كل مكان عرض فيه، ومن بين تلك النجاحات حصوله على جائزة الجمهور في الدورة الأخيرة من مهرجان تورنتو السينمائي، وعرض في مسابقة «نظرة ما» في مهرجان «كان» الأخير، إضافة لتحقيقه إيرادات كبيرة في شباك التذاكر اللبناني وترشحه لأوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالعربية ممثلاً لبنان، ولعل في مشاهدة الفيلم الإجابة عن سر هذا النجاح، حيث ستتضح الخلطة التي تأسس عليها الفيلم في استثماره في الصراع الطائفي الذي لا شفاء منه كما سيقول لنا الفيلم، لكن في سياق كوميدي وترفيهي، دون الخوض بما له أن يكون صادماً أو موجعاً، فحلول الصراعات الطائفية سحرية ونسوية، كما أن الأمر مدعاة للسخرية دون المساس بأي محرم، والغوص في حقل ألغام دون انفجار أي لغم فيه، وهكذا فإن الموضوع مغر جداً بالمشاهدة سواء عربياً أو عالمياً، كما أن هذا الموضوع الشائك سيقدم بمنتهى الرقة والجمال والسلاسة فلماذا لا يلاقي ناجحاً تجارياً؟
تجري أحداث الفيلم في قرية منسية سكانها من المسيحيين والمسلمين، وسيكون رهان الفيلم الرئيس في فعل المجاورة هذا إذ إننا سنكون أمام فيلم منقسم على الاثنين وبالتساوي، فالكنيسة يجاورها المسجد، وما يقدم عليه المسلمون سيقدم عليه المسيحيون، ورجلا الدين في كل الطرفين محتكمان على الحكمة والدراية بمخاطر أية حساسيات طائفية، لكن لا أحد يستجيب لهما، ثم إن الطائفية كما يقول لنا الفيلم سمة ذكورية، فنساء القرية متفقات في كل شيء، وحين تحصل أحداث طائفية خارج القرية فإنهن سيعملن المستحيل لئلا تصل تلك الأخبار إلى رجال القرية، والأمر مفتوح على مصراعيه لشتى أنواع المواقف والمفارقات، وفي ثنايا كل ذلك نتعرف إلى قصة حب بين صاحبة مقهى القرية «نادين لبكي» وشاب يقوم بدهن جدران المقهى، وليكون الأمر مكتملاً فإن الأولى ستكون مسيحية بينما الثاني مسلم وهنا ستحضر أيضاً قصة الحب المستحيل.
ما هو الحل إذاً؟ كيف ستنجح نساء القرية في إخماد القتنة الطائفية، وهن بكامل وعيهن بأنهن لا يردن للماضي أن يعود من جديد، سيتصدين لكل ما تشهده القرية سواء من تكسير صليب الكنيسة أو من تدنيس جامع القرية وغير ذلك من أحداث تسعّر الشحن الطائفي، لكنهن سيكتشفن أن كل ذلك لا ينجح، وعليه لا مجال إلا الاستعانة بالعبث، كأن يستقدمن راقصات أوكرانيات إلى القرية على الأمل بأن يتلهى الرجال بهن بعيداً عن الحرب والاقتتال بهن، لكن ذلك أيضاً لن ينجح إلا بإدخال شيء من البهجة على القرية وإضافة المزيد من المواقف الكوميدية، ولعل الحل الأخير سيكون بقيامهن بالاستعانة بالحشيش والمخدرات من خلال إعداد سهرة تكون المعجنات المقدمة فيها معجونة بتلك المادة المخدرة التي تذهب كل الأحقاد، وليقمن بينما الرجال غارقون بمشاعرهم الفياضة بدفن الأسلحة.
ما تقدم يشكل تلخيصاً سريعاً لما حمله فيلم لبكي، دون أن يفوتكم معرفة أنه محمّل بكل ما يشكل ترفيهاً حقيقياً وإن بدا الرهان على موضوع بمنتهى الخطورة، وهنا تأتي الأحداث في سياق الفيلم مراهنة على مزج الضحك بالدموع، ولعل لبكي ومن كتب السيناريو معها كانوا ناجحين في صنع ذلك، الذي متى تحقق فإن المشاهد سيكون بكامل الاستعداد لاستقبال كل ما يراه بعينين مفتوحتين، وسيكون منطق الفيلم مقبولاً، كأن تختزل الحرب الأهلية ومسبباتها بهذا الطرح الملفق، وأن يبدو الأمر ليس أكثر من كره له سمات أبدية وذكورية هبطت من حيث لا ندري.
بالانتقال إلى الفيلم الثاني فإن الحديث هنا سيكون مأساوياً تماماً، وعلى شيء من الدراما المقتبسة من قصة حقيقية. اسم الفيلم «عمر قتلني» للمخرج المغربي رشدي زم في أولى تجاربه الإخراجية بعد أن عرفناه ممثلاً في أفلام كثيرة، وليقدم في هذا الفيلم المشارك في مسابقة الفيلم العربي قصة هزت الرأي العام الفرنسي ومازالت، قصة تحمل في طياتها إضاءة كبيرة ومؤلمة على العنصرية الفرنسية تجاه المهاجرين العرب، وعلى شيء له أن يضعنا من حيث الموضوع أمام أفلام أميركية تناولت قصصاً على علاقة بالتمييز العنصري واضطهاد البيض للسود.
لا يمهلنا الفيلم أبداً في المضي خلف قصته، والتي ستمضي في تدوير زمني، بين الحاضر والماضي وأحياناً ما بينهما، وكل ما سنشاهده يتمركز على حادثة متمثلة بمقتل سيدة ارستقراطية فرنسية كتبت على الجدار في القبو الذي قتلت فيه «عمر قتلني» وعمر ليس إلا البستاني الذي يعمل في حديقتها، وهو مهاجر مغربي لا يعرف القراءة أو الكتابة ويعمل كوالده بستانياً، وهو يعتبر هذه السيدة أماً ثانية له.
إيقاع الفيلم سيكون مدهشاً، سنقع على عمر في المحكمة وهو يحكي عن نفسه بالعربية ويتولى مترجم ترجمة ما يقوله إلى الفرنسية، ومن ثم سيتحرك الفيلم نحو استعادة الكيفية التي جرى بها اعتقال عمر، واستجوابه بالفرنسية التي لا يعرف إلا شيئاً يسيراً منها، وإلى جانب ذلك سنتعرف إلى كاتب سيتولى تأليف كتاب عن عمر، وعليه سيمضي ما يستعيده ذلك الكاتب من ملابسات جنباً إلى جنب إلى ما تعرض له عمر في الماضي وما يتعرض له بينما الكاتب يبحث في قضيته.
ما من دليل واحد يثبت أن عمر أقدم على قتل تلك السيدة، وبكلمات أخرى كل شيء يؤكد أنه بريء، بل إن تلاعب الشرطة بالأدلة وتغيرها بما يخدم إدانة عمر سيكون جلياً أيضاً، كما هو انحياز القاضي ضد عمر، إلى درجة سيكون كل من بفرنسا مؤمناً ببراءة عمر إلا جهاز الشرطة والقضاء.
يحمل الفيلم خصوصيات كثيرة وتنويعات سردية تصب جميعاً في وضعنا أمام فيلم محكم يمتلك قدرة استثنائية على بناء التعاطف مع شخصية عمر التي قدمها بأداء رائع سامي بواجيلا، وعذاباته التصاعدية واضرابه عن الطعام ومن ثم محاولة الانتحار، وصولاً إلى مسعاه لأن يبرئ نفسه دون الاستكانة إلى قرار العفو الذي يصدره الرئيس الفرنسي عنه بواسطة يقوم بها ملك المغرب محمد الثاني، ولعل تشكيل الفيلم سيجعل من كل الأحداث تمضي متزامنة ومتسارعة ومتدافعة على نحو لافت دون إعطاء الفرصة لالتقاط الأنفاس.