من أفلام مسابقة «المهر العربي»
بين بيروت وعمّان «شي غادي وشي جاي»
يمكن تتبع الأفلام في مسابقة المهر العربي، ويمكن لذلك أن يكون أيضاً على شيء من الخبب، بما أننا نحاكي المهر، وبما يجعلنا ننتقل من فيلم حكيم بلعباس «شي غادي وشي جاي»، إلى فيلم دانييل عربيد «بيروت بالليل»، مروراً بفيلم يحيى العبدالله. الأول يمضي خلف ما له أن يكون قضية ذات حضور كبير في السينما المغاربية، بينما يتخذ يحيى العبدالله من مصير رجل معبراً نحو معاينة حياة من يجد أن ما تبقى له على هذه الأرض لا يتجاوز الأسبوع الواحد، بينما نطل من خلال فيلم عربيد على بيروت ونمضي معها في رحلة اكتشافات لما هي عليه المدينة التي تحمل «وجه بحار عجوز» في أيامنا هذه.
بين «الغادي والجاي»، أي الذاهب والعائد، نعثر على فيلم المغربي حكيم بلعباس، ولعل موضوع الفيلم حاضر على الدوام إن قلنا عنه إنه عن «الهجرة غير الشرعية»، إن صح الوصف، أو «الحراقة»، وفق المصطلح المغاربي، لكن ومع أفلام كثيرة مغاربية تناولت هذه الظهرة، يأتي فيلم بلعباس ليضيف الكثير في هذا الخصوص، إنه يمضي خلف «الحراقة»، لكن بالتوازي مع من يخلفونهم وراءهم، إنه يقول لنا إن مأساة من يبتلعهم البحر وهم يهاجرون تطال من حولهم أولاً، وإن انتظارهم يشبه انتظار غودو، لا، بل يمكن القول إن الفيلم معني أكثر بمن يفرض عليهم الانتظار، ونقصد هنا زوجة ذلك الرجل الذي يقرر ركوب البحر والمضي إلى اسبانيا، ومع زوجته يخلف ولدين (صبي وبنت)، وليكون الفيلم ومن البداية معنياً ومنغمساً تماماً برصد حيوات الزوجة والأولاد والمصائر التي تحاصرهم، وكيف لهذه المرأة أن تواجه عوزها وانتظارها في آن معاً، وذلك في قرية مغربية نائية تحمل من جمال الطبيعة بما يجعل من لقطات الفيلم التي تتولى سرد الكثير دون حوار كثير، لقطات تحتكم على الكثير ونحن نمضي مع البنت والصبي في رحلتهما الطفولية ومعاينتهما حياة لا شيء يحدث فيها.
مع سفر الأب وانتظار أن يتصل بعائلته، تمضي الأم جل وقتها على مقربة من دكان القرية الوحيد، كونه المكان الوحيد الذي يحتوي هاتفاً، ومن ثم الأولاد الذين يلعبون إلى جانب الدكان، ومن ثم تتراكم ديون الأم ويمارس صاحب الدكان ابتزازه الجنسي لها مقابل أن تحصل على احتياجاتها، وبعد ذلك تنفتح الكاميرا على الطبيعة واللقطات الكبيرة، بينما نتابع في الوقت نفسه الأب وبرفقة مجموعة من المهاجرين متعددي الجنسيات بانتظار القارب الذي سيقلهم.
فيلم «شي غادي وشي جاي» محتكم على جماليات كثيرة أولها السرد البصري المدهش، وهو يضيء على أن العوز ليس دافع المهاجرين الأساسي، إنما الملل، توقف الحياة وربما انعدام المغامرة والآفاق، ولعل النهاية تقول إنه أمر مستمر ومتواصل ونحن نرى الابن يمضي للعمل بما كان يعمل به الأب أي تكسير الأحجار والصخور، الأب الذي يكتب له مصير الغياب، فالمهاجر لن يكون ميتاً ولا حياً، إنه في منطقة مظلمة بينهما.
أب آخر سنعثر عليه في فيلم الأردني يحيى العبدالله «الجمعة الأخيرة» في أولى تجاربه الروائية الطويلة، لكن هنا سنكون حيال أب عليه أن يجري عملية جراحية، ولكم أن تضعوا بالحسبان المشهد الافتتاحي في الفيلم ووصف الجمعة بأنها أخيرة، لكن ومع مسعى هذا الأب (علي سليمان) لتأمين المبلغ الذي يحتاجه لإجراء تلك العملية، فإننا سنتعرف إلى حياته كاملة وما سقط منها سهواً أو لسوء حظه والكثير، ما يجعلنا في النهاية أمام رجل يواصل العيش هو المطلق وامرأته (ياسمين المصري) متزوجة من رجل آخر ولديه ابن منها يعيش معها.
الفيلم يعدنا بمخرج لنا أن نصف خطوته الأولى هذه بالخطوة المميزة، ومع ما يقرب ربع ساعة الفيلم الأولى، فإننا سنتابع هذا الأب الوحيد دون أن ينطق كلمة واحدة، بين جلوسه وحيداً يشرب قهوته وعمّان وراءه ومن ثم انقطاع الكهرباء عن غرفته الصغيرة، وتبديل محول الكهرباء بمحول أحد من الجيران، ومن ثم نزوله الدرج وتوقفه مع شعوره بألم، وليركب التاكسي الذي يعمل عليه ومسعاه لأن يقل جارته التي يبدو أنه معجب بها، وليكون أول الكلام ما تتكلم به تلك الجارة على الهاتف بينما هي التاكسي.
سرد ما تقدم سيجعلنا نواكب ذلك الأب على هذا النحو، تفاصيل حياته الصغيرة، شهواته وخيباته، علاقته بابنه الذي يأتي ليمضي بضعة أيام معه، ومن ثم ماضيه، ومستقبله إن كان من مستقبل سوى تلك العملية التي يكتشف أن عليه إجراءها، إضافة لحمله على الدوام طاولة زهر فهو مقامر أيضاً، وشخصية يتشابك ويتداخل فيها كل شيء لأنه ببساطة يعيش.
بالانتقال إلى فيلم دانييل عربيد، فإننا سنكون معها هذه المرة في بيروت بعد أن كان فيلمها السابق «رجل ضائع» تنقلاً بين لبنان وسورية والأردن، ففي «بيروت بالليل» سنكون موجودين في هذا الفيلم في بيروت فقط، ليكون الفيلم نبشاً لهذا الليل وما يخفيه، وعلى شيء يقول لنا: بيروت مملوءة بالاستخبارات، ومن كل الأنواع والأشكال، ووفق ذلك ستحضر أجواء عربيد السينمائية، حيث سنكون أمام مغنية ليلية (دارين حمزة)، سرعان ما ستخوض غمار علاقة محمومة مع رجل فرنسي (تشارلز بيرلينغ) له أن يكون على قدر لا بأس به من الغموض وهو ينتقل بين بيروت ودمشق لعقد اتفاقية اتصالات مع الحكومة السورية.
بالتوازي مع تلك العلاقة ستتشابك خيوط كثيرة لدى ذاك الرجل الفرنسي، خصوصاً من خلال علاقته مع حسين، الذي سيطلب مساعدته وتأمين سفره إلى فرنسا، كونه يمتلك شاهداً على علاقة بجريمة مقتل رفيق الحريري.
ما تقدم شذرات من ما حمله فيلم دانييل عربيد، إذ سيكون حتى الشخصي استخباراتياً، والمغنية الجميلة يتعقبها على الدوام رجال الاستخبارات اللبنانية، كون خالها سيكون ضابطاً مهماً في الأمن.
يمنحنا الفيلم رصداً للأجواء المخيمة على بيروت، تأزم العلاقات وعنفها، وتسيد المنطق الاستخبارتي حتى حين يكون الأمر متعلقاً بالحب والزواج، كما سيكون عليه زوج المغنية السابق، إنه فيلم يتحرك في فضاء السلم الواهي في بيروت، السلم المحمل على الدوام بنذر انفجار حاضر على الدوام.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news