« وهران السينمائي ».. تجارب شبابية ترسم مستقبل السينما العربية
أفلام قصيرة من الجهة المقابلة
يأتي ذلك من الجهة المقابلة! عبارة قد تدفع إلى السؤال عن الجهة التي نتكلم منها، وتحديد المكان الجغرافي وما إلى هنالك من دواعي تبديد مظاهر الغموض التي تعتري من يقرأ عبارة كهذه. التوضيح بداية سيكون كالتالي: أنا أتكلم هنا عن الدورة الخامسة من مهرجان وهران للفيلم العربي، وبالتالي تم تحديد المكان جغرافياً بوهران الباهية التوصيف الجزائري المرتبط بهذه المدينة الساحلية، ويقصد بالجهة المقابلة «مسابقة الفيلم القصير» في هذه الدورة، فعادة ما نتكلم من جهة واحدة هي الأفلام الطويلة، التي تشكل في دورة هذا العام كما في أعوام سابقة مختارات من أهم الانتاجات العربية لهذا العام أو العام السابق، والتي أدعي أنني مررت عليها نقدياً، ولأقدم هنا للأفلام القصيرة التي حملها هذا العام الوهراني بحيث تمنح مسابقة القصيرة فرصة للتعرف إلى تجارب شبابية لها أن ترسم لنا خطوطاً لما ينتظر مستقبل السينما العربية إن صح الوصف، ولها أن تكون ايضاً مجرد مشروعات تخرج لكنها تعد بالكثير.
استوقفني كثيراً فيلم للمخرج الجزائري أمين سيدي بومدين «غداً الجزائر»، وله أن يقدم لنا ما يود قوله في سياق وفي تماماً لبينة الفيلم القصير، قبل وصف مدى أهمية ما يقوله، إذ إن السؤال الذي يفرض نفسه على الدوام يرتبط بالكيفية التي يقول بها الفيلم ما يود قوله.
«غداً الجزائر»
فيلم بومدين يضعنا مباشرة أمام شاب مستغرق في التدخين، وهو على موعد مع شيء مصيري، كل ما يطالعنا في الكوادر يقول لنا ذلك،ثم سينضم إلى صديقين، يسعى إلى إقناعهما بالمضي معه. طبعاً نحن لا نعرف إلى اين سيمضون، واول ما يتبادر إلى الذهن مثلاً أنه يريد أن يسافر وهو يقنع صديقيه بأن يرافقاه، لكن وفي مسار مواز ستدخل شخصية على مسار الأحداث، نقع عليها جالسة إلى طاولة المطبخ، بينما أمه تمضي في نصحه وما إلى هنالك من دواعي السفر، ثم سيخرج من البيت ويمضي في سيارة تاكسي، ولنعرف أنه مسافر.
سيكون الأصدقاء الثلاثة شهوداً على رحيل ذلك الشاب، كما أن هذا الأخير لن يذهب لتوديعهم كما يقول له سائق التاكسي، وحينها فقط سيوافقا على الانضمام إلى صديقهما، ولنكتشف أنه كان يدعوهم إلى المشاركة في التظاهرات التي عمت أرجاء الجزائر عام 1988 للمطالبة بالحرية والديمقراطية التي أدت إلى تشكيل الأحزاب وإجراء انتخابات حرة، أفضت في ما بعد إلى الأحداث الدامية التي تفجرت في تسعينات القرن الماضي، بعد إلغاء نتائج الانتخابات.
هذه النهاية ستفسر كل ما شاهدناه طوال الفيلم، يكفي أن يورد الفيلم تاريخ 1988 ليقول لنا الكثير ويعيد كل ما شاهدناه في سياق هذه الخاتمة.
في سياق متصل مع الفيلم القصير أمضي إلى فيلم المخرج المصري محمد رمضان «حواس»، الذي ليس إلا مشروع تخرج هذا المخرج الشاب، الذي يهديه في النهاية إلى جميع المرحومين والمحرومين، ولعل استخدام كلمة «المحرومين» جعل الفيلم يمضي في سياق لن يكون على اتصال بفيلم «كلّمها» لألمو دوفار، فنحن حيال امرأة أو ممرضة تكرس حياتها لرجل يعيش غيبوبة، فهي تعمل على تنظيفه والعناية به، لكن وسط ذلك فهي أيضاً واقعة في غرام ذلك الرجل الاشبه بالجثة، الذي لن يكون إلا مساحة لتفريغ شهواتها في جانب من جوانب تلك العلاقة، كونها تنتمي إلى «المحرومين».
«ألفيس من الناصرة»
فيلم الفلسطيني راني مصالحة «ألفيس من الناصرة» يضعنا حيال التقاط جميل لشخصيات جميلة، وذلك بتعرفنا إلى ألفيس برسلي من جديد، حيث يتمركز الفيلم حول أطفال شوارع الناصرة الذين يعيشون على التسول، ولتنشأ علاقة بين أحد أولئك الأطفال ورجل مهوس بألفيس برسلي بدءا من الشكل ونمط الملابس وصولاً إلى غنائه أغانيه، ونحن نتجول في بيته حيث تهيمن على الجدران صور «ألفيس برسلي» مع العديد من الأزياء التي تنتمي إلى الستينات والتي تتمحور حول ما كان يلبسه برسلي، ولينسج ألفيس الناصرة الذي نقع عليه يمضي من مكان إلى آخر في ليل الناصرة ليغني هنا وهناك، لينسج قصة ملفقة يرويها على ذلك الطفل، مفادها أنه التقى ألفيس حين جاء الناصرة وغنى فيها، والعود الذي بحوزته ليس إلا هدية من ألفيس برسلي، وليقوم الطفل بسرقة العود والسعي إلى بيعه، وليكتشف بعد ذلك أن ما قاله له ألفيس الناصرة ليس إلا من نسج الخيال.
«حنين»
في تعقب الأفلام القصيرة التي شاهدتها في «وهران الفيلم العربي» أمضي خلف فيلم فلسطيني آخر لأسامة بواردي بعنوان «حنين» له أن يكون مبنيا وفق كل ما يشير إليه عنوانه، ونحن حيال امرأة خمسينية تمضي أيامها في مزاولة الحنين، ولا شيء إلاه، فهي تستيقظ على صوت مثقب، وليكون ذلك بسبب وضع رقم على بيتها، الأمر الذي تسارع إلى إزالته، كما لو أنها لا تقبل بأية اضافة على ما هي عليه، أو اي تغيير بسيط قد يطرأ على بيتها الجميل ولو كان ذلك رقماً، وبين صندوق البريد واعداد القهوة تمضي يومها، وصولاً إلى شربها كأساً في الليل وواضعة كأساً أخرى لرجل غائب كما علينا أن نستنتج، لكن قبل كل ذلك هنا فتى صغير يأتي ليقطف البرتقال من أشجار بيتها، ولتقول له تلك السيدة «خذ ما تشاء من البرتقال وتعال كل يوم»، هذا هو الاتصال الخارجي الوحيد الذي تجريه السيدة في الفيلم، والذي سرعان ما يجري استثماره في الفيلم، ففي الليل سنقع على ضجة وصخب ومجيء سيارات الشرطة التي لن تكون إلا سيارات اسرائيلية ولنعرف أنهم أخذوا والد ذاك الصبي الذي يقطف البرتقال، ولتخرج السيدة من بيتها وتضم ذلك الصبي.
«صباح، ظهر»
ختاماً أمضي مع فيلم المخرجة السورية غايا جيجي «صباح، ظهر، مساء،..صباح» الذي له أن يكون تنويعاً سردياً يمضي في تعقب أربعة أزمنة متجاورة ومتشابكة، ولها أن تكون في النهاية تمركزاً حول حدث بعينه، متعلق بهجران أم لابنها وزوجها، فنحن سنكون أثناء حدوث ذلك وملابساته، وقبل ذلك أيضاً وبعده، وصولاً إلى ذلك الابن الذي نشاهده كبيراً وهو يسعى لأن يعقد لقاء بين امه وأبيه المطلقين.
فيلم غايا جيجي مدعاة لتتبع الكيفية التي تسرد بها فيلمها، ولعل الرهان سيكون على «كيف» أكثر من ما يسرده الفيلم من دون أن يكون من الوارد الفصل بينهما، خصوصاً مع حرص المخرجة على احكام قبضتها على خيوطها بالاستعانة بالإضاءة وتنويعاتها، أو الأخبار المتلفزة للإشارة إلى الفترة الزمنية التي نشاهدها، وهكذا فإن الفيلم سيجعل في النهاية من هذه القصة، أي قصة هجران الزوجة لزوجه، سرداً مكثفاً يحيط بجميع ما يفضي إليه فعل كهذا، وتحديدا لدى الابن، إذ ينتهي الفيلم وهذا الابن صغير برفقة والده ووالدته، الاب يقول له سأذهب لاشتري سجائر، بينما تقول الأم لدي ما أفعله وأعود إليك، وليبقى وحيداً يجلس إلى جانب الطريق بانتظار من لن يعودوا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news