«يجب على قيصر أن يموت».. الفيلم الفائز بجائـزة الـــــدب الذهبي
النبوءة الشكسبيريـة متحققة على الشاشة
لم يكن لنبوءة شكسبير إلا أن تتحقق، لأنها تستند قبل أي شيء على حقيقة درامية قادرة على الاستمرار إلى ما لا نهاية، إنه يوليوس قيصر الذي قال عنه: «إنه سيموت مئات المرات على خشبة المسرح»، وها هو يموت أو يقتل مجدداً، لكن على سطح الشاشة الكبيرة وفي برلين عام 2012 على يدي الأخوين باولو وفيتوري تافياني في فيلمهما Caesar Must Die الذي فاز بجائزة الدب الذهبي في الدورة الـ62 من مهرجان برلين السينمائي التي اختتمت السبت الماضي.
لطالما كنت أقارب الأفلام المأخوذة عن نصوص مسرحية بحذر، لاعتقاد متأتٍ من أن المسرح أو «المسرحة» قادرة على أن تتطغى على السينمائي، حيث عناصر رئيسة من الفيلم ستكون متوافرة في المسرحية بداية من: القصة والحوار والشخصيات والممثلين، الذين سينقلون من خشبة المسرح ليوضعوا أمام الكاميرا، وأقصد بتوصيف كهذا، تلك الأفلام التي تأتي على هذا النحو وهي تمسرح السينما بدل العكس.
يجب القول إنه «يجب على قيصر أن يموت» قادر على أن ياسر المشاهد من اللقطة الأولى، لكن تلك الريبة لم تزل إلا بعد مضي ما بين خمس إلى 10 دقائق من الفيلم، وحينها فقط عرفت أنني حيال معالجة سينمائية خاصة، تعيد يوليوس قيصر حياً ليقتل مرة أخرى، لكن على الشاشة الكبيرة، وهذا المرة على يد صاحبي «بيدرو بدروني» الذي توج فيه الاخوان تافياني بسعفة كان الذهبية عام .1977
يبدأ فيلم «يجب على قيصر أن يموت» ملوناً، ونحن نشاهد على خشبة المسرح المشهد الأخير من مسرحية «يوليوس قيصر»، حيث بروتوس يناجي كل من حوله ليقتلوه، فهو عاجز عن الإقدام على الانتحار، إلى أن يضع الخنجر في يد خادمه، ثم يعاني الأخير لينغرز الخنجر في جسده، وليقول إنه الآن فقط سيكون مرتاحاً في قبره.
«زووم أوت» وسنرى المشاهدين والجميع يصفق، ثم لن نعرف لمَ الشرطة موجودة على الخشبة بعد انتهاء العرض، والإجابة تكمن في أن من رأيناهم على خشبة المسرح وهم يؤدون شخصيات مسرحية «يوليوس قيصر» ليسوا إلا سجناء، وهم في طريقهم إلى العودة إلى السجن، وحينها يتحول الفيلم إلى الأبيض والاسود، ويبقى كذلك حتى خاتمة الفيلم التي تعود بنا إلى المشهد السابق الذكر ويصبح ملوناً.
تمتزج في فيلم الأخوين تافياني التجارب الواقعية مع عوالم شكسبير التي تنبني حول الفيلم، وفي هذا ما يمنح النص الشكسبيري ما وجد من أجله، بمعنى أن قيصر وبروتوس وكاسيوس وجميع تلك الشخصيات قادرة من خلال الكيفية التي رسمها شكسبير وما يحمله حوارها أن تشكل الإمكانية المجازية لهذه المسرحية، إذ لاتزال المؤمرات مستمرة، وكذلك الأمر بالنسبة للديكتاتورية والتفرد بالسلطة وغير ذلك مما تحمله مأساة قيصر من معان تتخطى الأزمنة والأمكنة، وهذا يشمل جميع الأعمال الشكسبيرية.
إذاً كما أسلفت فإن الممثلين الذين يؤدون مسرحية «يوليوس قيصر» سجناء، وبعد مشاهدتنا آخر جزء من المسرحية في البداية سيعود الفيلم إلى ستة اشهر مضت ليرينا «بروفات» المسرحية، وهنا سيكون الاستثمار في السجن، والتنويع بين «البروفا» والأداء، بحيث يجري الحوار أثناء التدريبات، وسيجد الأخوين تافياني معبراً لتقديم هذا العمل مسرحي وفق رؤية متصلة بالواقع الإيطالي، وليجد معادل الشخصيات الرومانية التاريخية والشكسبيرية كقيصر ومارك أنطونيو وكاسيو ووبروتوس لدى رجال العصابات، وتحديداً المافيا الإيطالية، وكون جميع من سيلعبون هذه الشخصيات هم من أعضاء المافيات الإيطاليين الذين تلتقي تجاربهم الواقعية مع تلك الشخصيات التي يجسدونها، هم القتلة وتجار المخدرات المحكومون بسنوات سجن طويلة.
في سياق متصل، يصر مخرج المسرحية على ألا يستخدم السجناء اللغة الإيطالية الفصحى أو المعادل الإيطالي للغة الشكسبيرية، بل يدعوهم إلى استخدام لهجاتهم، بحيث تتحول الجذالة اللغوية الشكسبيرية إلى تنويع في اللهجات ما بين نابولي وتورينو وغيرهما من المدن الإيطالية، وينتقل الفيلم إلى التنويع في مواقع التصوير التي لن تكون إلا خلف أسوار سجن «ربيبيا»، وهكذا سيكون هناك فعل تشظية للحوار وتحريف للوحدات المسرحية الثلاث، إذ تؤدي شخصية «مونولوج» وحيدة في زنزانتها، وقد يعجز كوسيمو ريغا وهو يجسد شخصية كاسيو أن يكمل الحوار، لأنه متصل بما تعرض له شخصياً مستعيداً ذلك من خلال أسطر شكسبير، بينما لن تكون الأزياء أزياء ملوك وأباطرة رومان، بل الشخصيات بثيابها العادية، وقد تضع سيفاً في بنطال «الجينز»، وليكون أيضاً قيصر مرتدياً «تي شيرت» أبيض، بينما يرتدي مارك أنطوني «تي شيرت» أسود.
حصيلة ما تقدم معالجة سينمائية مدهشة لمسرحية شكسبير، وبناء نقطة التقاء حصيفة بين السينما والمسرح، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وقد كان شكسبير ولايزال شديد الوطأة على السينما، بحيث تتحول ساحة السجن إلى ما يشبه المدرجات الرومانية من دون أي تعديل على تلك الساحة، عدا صراخ السجناء من زنزانتهم منددين بقتل يوليوس قيصر، كما ستكون الاسوار والممرات المحاصرة بالشباك مكاناً مثالياً لنسج خيوط المؤمراة. ستتماهى الشخصيات الشكسبيرية بالسجناء، فالسمات المسرحية للشخصيات ليست إلا السمات الواقعية للسجناء، الذين لن يكونوا إلا ضحايا خيانات ومؤمرات ووشايات نالت منهم وأودعتهم وراء القضبان.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news