لطالما اتكلت مونرو على لطف الغرباء
يبدو أن هوليوود مسكونة بالحنين، وهناك أدلة دامغة ليس آخرها فوز «ذي آرتيست» بخمس جوائز أوسكار، بل أيضاً في الفيلم الذي أعرض له هنا وهو My Week with Marilyn «أسبوعي مع مارلين»، وإن كانت أحداث الأخير تجري في بريطانيا، كما «ذي آرتيست» انتاج فرنسي إلا أنه ليس إلا استعادة للفترة الصامتة، وللدقة الفترة الهوليوودية منها، وفي منطق درامي هوليوودي بامتياز، تماماً كما ستظهر علينا مارلين مونرو في عز تألقها أي في منتصف خمسينات القرن الماضي، مستعادة ومجسدة في الفيلم الذي أخرجه سيمون كيرتز.
القول إن رهان «أسبوعي مع مارلين» على مارلين مانرو شيء أقرب للقول إن «الأرنب يحب الجزر»، ولا أعرف ـ على سيرة الجزر ـ لمَ كنت أردد طيلة مشاهدتي الفيلم عبارة فورست غامب الشهيرة «والتقينا كما الجزر والبازلاء»، ولعل الأمر على اتصال بأن الفيلم نفسه يستدعي معه الكثير إن تعلق الأمر بمونرو (1926 - 1962) ونحن نشاهدها مجسدة من قبل الممثلة ميشيل وليامز، التي سنستقبلها من اللقطة الأولى من الفيلم وهي تغني وتتماهى مع مارلين مونرو، من دون أن تفارقني حقيقة بسيطة مفادها: لا أحد مثل مونرو، حتى وإن كانت وليامز قد قدمت أفضل ما يمكن، وعلينا أن نمضي مع الفيلم ووليامز هي مونرو وليس العكس صحيحاً بالتأكيد.
سرد الفيلم والزاوية التي يقارب فيها مونرو، يأتيان من السيرة الشخصية لكولين كلارك (إيدي ريدميني)، وبالتالي حياته التي تصادف أن مرت بها مارلين مونرو، لا بل إنه وقع في عشقها ولم يكن قد تجاوز 23 من العمر، بينما تكون مونرو في 30 ونحن في عام ،1957 وقد توافق هذا العام أن يكون عام اتخاذ كلارك قرار أن يمضي خلف هوسه السينمائي، وأن يدخل عالم الفن السابع مهما كلفه الأمر، وليمسي كما نشاهد في الفيلم المخرج المساعد الثالث للممثل والمخرج البريطاني لورنس أوليفيه أثناء تصويره فيلماً سيحمل في «أسبوعي مع مارلين» عنوان «الأمير النائم» وهو ليس في الواقع إلا فيلم «الأمير وفتاة الاستعراض» الذي يمكن العودة إليه ومشاهدته ومشاهدة كل من مونرو وأوليفييه.
سيتولى كلارك أمر الراوي وسيكون خوضه غمار العمل السينمائي للمرة الأولى في حياته معبراً إلى مقاربة عالم مارلين مونرو وما كانت عليه في تلك الأثناء، ولعل عقدة العمل الرئيس ستكون علاقة مونرو مع أوليفييه، ولمن لا يعرف الأخير، فعليه معرفة أن هذا الممثل الكبير ارتبط بشكسيبر على نحو وثيق، وإن العودة إلى الأفلام التي أخرجها ستضعنا حيال حقيقة مفادها أنه لم يخرج سوى خمسة أفلام، هي «هاملت»، و«ريتشارد الثالث»، و«هنري الخامس» والأفلام الثلاثة مقتبسة من مسرحيات شكسبيرية والرابع بعنوان «الشقيقات الثلاث» مقتبس أيضاً من عمل لأنطوان تشيخوف، وليكون خامسها فيلم «الأمير وفتاة الاستعراض» الكوميدي الخفيف، الذي جمعه مع مونرو، والذي لا يشبه أياً من الأفلام الأربعة السابقة الذكر.
الحقائق السابقة ستضيء لشخصية أوليفييه الذي جسده في فيلمنا كينيث براناه المهووس الشكسبيري الآخر، لا بل يمكنني القول إن أحداً لا يستطيع تجسيد أوليفييه كما فعل براناه الذي يمكن اعتباره الوريث الشرعي لإرثي أوليفييه السينمائي والمسرحي.
أخذنا الحديث عن أوليفييه وتمركز الفيلم بشكل رئيس سيكون حول مونرو، التي ستقف على الطرف النقيض من أوليفييه، دائماً متأخرة عن موعد التصوير، وهي في ذروة الشباب والنضارة، وتعاني أزمة انعدام ثقة قاتلة تتمثل في التشكيك دائماً في ما تقوم به، وعلى شيء كما سيقول لنا الفيلم القلق الإبداعي الخلاق.
إنها خائفة مرتعبة من الكاميرا، ولتتضاعف مخاوفها مع قسوة أوليفييه وجديته المفرطة، التي لن تكون بداية في وارد أن تفهم شخصية مونرو، التي لا تستطيع القيام بشيء إلا بمساعدة لوسي «ايما واتسون» التي حين تعجز عن أداء مشهد مرات كثيرة تسألها أن تنسى أن أوليفييه أمامها وأن تفكر في من تحب أو ما تحب «مثل فرانك سيناترا أو الكوكاكولا».
وفي المضي أكثر في الإضاءة على هذه الفترة من حياة مونرو فإنها ستكون متزوجة حديثاً من الكاتب الأميركي المعروف آرثر ميلر، الذي سرعان ما يهجرها، فهو كما سيقول لأوليفييه ما عاد قادراً على التفكير والكتابة وهو بجانبها، «إنها تلتهمني» حسب تعبيره.
كل ما تقدم سيأتينا من خلال كلارك، الذي سيلعب من حيث لا يدري دور المقارب بين مونرو وأوليفييه، ولينتقل الفيلم بعد ذلك إلى عنوانه بالمعنى الحرفي للكلمة، أي الأسبوع الذي أمضاه كلارك مع مونرو، التي تتكأ عليه لمواصلة ذلك الفيلم وهي تنتقل من حالة إلى أخرى، مستعينة بالمنومات والمهدئات وكل ما لم يساعدها في النهاية على مواصلة الحياة بعيداً عن الفيلم هذه المرة.
مونرو كما ستظهر في الفيلم، يحاصرها القلق وانعدام الأمان، كل من تعرفهم سرعان ما يهجرونها، وهي في الوقت نفسه بحاجة إلى أن يحبها الجميع، وإلى جانب صورة أمها تضع صورة إبراهام لينكولن لأنها لا تعرف والدها وتعتبر لنكولن والدها. وبرفقة كل ذلك ستكون مونرو امرأة تعشق الحياة بجرعات كبيرة، وهي حرة وطليقة وتعيش حياتها وفق املاءات رغباتها ونزواتها، وهذا ما سيتضح في الفيلم من خلال هذا الأسبوع الذي يمضيه كلارك برفقتها وقد تحول إلى عاشق متيم بها، وهي بدورها تبادله ذلك، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن أن تتخلص مما تشكو منه، بمعنى أن فهم كلارك العميق لها لن يفضي بها إلى مواصلة علاقتها به، التي لن تكون إلا بالعودة إلى عبارة فورست غامب «والتقينا كما الجزر والبازلاء»، ولعل عبارة أخرى قالتها بلانش في مسرحية تينيسي وليامز الشهيرة «عربة اسمها الرغبة» لها أن تضيء مآزق مونرو النفسية هي: «لطالما اتكلت على لطف الغرباء»، هذا اللطف الذي على كل من أمامها أن يقدمه لها، وهي قادرة في الوقت نفسه على استخلاصه من الجميع، لكن دون أن يكون أي شيء مقنعاً لها، مع حقيقة أن الحياة كاملة لا شيء مقابل ما تتطلع إليه، وهي لا تعرف في الوقت نفسه ما هو تطلعها. فيلم «اسبوعي مع مارلين» مقاربة لعالم مونرو، حيث لعنة الجمال وبركته، إنه عن نجمة التناقضات، التي أحبت الحياة أكثر ما تحتمله الحياة نفسها فانتحرت، والفيلم يجمع بين التوثيقي والخيالي، بمعنى أن كلارك يروي ما شاهد مونرو عليه وما عاشه معها، وهناك استعادة لافتة ومميزة لفيلم «الأمير وفتاة الاستعراض» وميشيل تردد كما مونرو «أحبك.. لقد أحببتك دائماً».