جديد ستيفن دلداري

«صاخب جداً وقريـــب للغاية».. 11 سبتمبر والروايـــة الموازية

صورة

فيلم Extremely Loud & Incredibly Close «صاخب جداً وقريب للغاية»، المعروض حالياً في دور العرض المحلية، يدفعنا بداية إلى التقديم له بالقول إن أفضل ما يمكن القيام به سينمائياً حيال حدث تاريخي لامس شعباً بأكمله لا بل العالم بأجمعه، هو سرد قصة إنسان في خضم ذلك الحدث، مع التأكيد أن هذه الحقيقة على شيء من البديهيات، كون الفن أي فن ينبني أولاً وأخيراً حول الإنسان، أو البشر من لحم ودم ومصائرهم، وعليه فإن السينما ومثلها الرواية تقدم ما يعرف بالرواية الموازية للحدث، أي مصائر البشر، بما يجعل الفن في الوقت نفسه الأداة الوحيدة لتحويل الإنسان من مجرد رقم في نشرات الأخبار إلى إنسان من لحم ودم، يأكل ويشرب ويحب ويكره وما إلى هنالك، وحينها فقط يمس الحدث التاريخي (حرب، نزاع، كارثة طبيعية) الإنساني.

مخرج «صاخب جداً وقريب للغاية» ستيفن دلداري متخصص في ذلك، وله دائماً أن يتكئ على عمل أدبي ليساعده في تقديم الرواية الموازية، فجديده لن يكون في النهاية إلا عن أحداث 11 من سبتمبر، والقول إن هذا الحدث وما تبعه من أحداث كثيرة مثل غزو أفغانستان، ومن ثم العراق، وغير ذلك من «انقسام العالم إلى فسطاطين»، كما قال أسامة بن لادن، أمر لا يعني الفيلم، ولا يعنينا أيضاً حين نكون أمام فيلم روائي منحاز على الدوام إلى الخيال، خصوصاً أننا جميعاً نعرف ذلك، وقد دفعنا ذلك لأن نتسمر أمام نشرات الأخبار، لا بل إن مشهد اصطدام الطائرات في برجي التجارة العالميين الذي لا يفارق شاشات التلفزة منذ أكثر من 11 سنة، ليس إلا متسبباً لمأساة شخصية، بمعنى أننا سنتعرف إلى مصير أوسكار حين يفقد والده الذي كان في واحد من البرجين.

قبل المضي مع ما يقدمه هذا الفيلم، نعرج على سينما دلداري، للقول إنه دائماً يقدم فيلماً جميلاً، ودائماً يستند على الحكاية أولاً وأخيراً، بحيث يشكل السيناريو المعبر الأساس نحو ما يمسك دلداري به بحنكة، والنتيجة دائماً فيلماً يروي قصة جميلة تقول ما تقول، بالتحالف مع تقطيع مونتاجي متناغم وحبكة الفيلم، دون أن يتعدى الأمر ذلك، تشاهد فيلمه وتقول إنه فيلم جميل بعيداً عن أية مقترحات سينمائية جديدة.

توضيح ذلك ضروري لئلا يحمّل دلداري ما لا يحتمله، ولعل «صاخب جداً وقريب للغاية» على اتصال بآخر أفلامه أي «القارئ»، كون هذا الأخير يروي قصة جميلة ومبنية بحنكة على اتصال بحدث تاريخي أيضاً، ألا وهو «الهولوكست» أو «المحرقة اليهودية»، لكن من دون أن يخوض غمار الاستعادة التاريخية لذلك، بل من خلال في علاقة حب بين شاب في الـ15 من عمره وامرأة على مشارف الـ40 إن اللحظة المنفلتة من القواعد والمحرمات، واختلاط الأمومة بالطفولة، وتجاور كل ما للأنوثة بالذكورة ووفق ما تمليه حساسية خاصة جداً.

ففيلم «القارئ» يبدأ بفلاش باك مع رالف فينس الذي جسد شخصية مايكل في الكبر، وليعود إلى ما كان عليه في مراهقته، إذ يجسد شخصيته مايكل كروس الذي سيغرق في قصة حب تنشب في مصادفة عجيبة، تقوده إلى الانغماس في حب هانا (كيت وينسلت)، وتحول علاقته مع هذه المرأة الغامضة إلى كل حياته، كل ما يتوق لأن يعيشه، دون أن ينشغل بأي شيء آخر من اهتمامات من حوله إلا القراءة، والتي تتحول إلى فعل يسبق الحب بين مايكل وهانا، فعلى مايكل في كل مرة يزور فيها هانا أن يقرأ عليها رواية، وعليها تتحول حياة مايكل إلى الحب والقراءة، إلا أن تختفي فجأة من حياته، آخذة معها كل غموضها الذي سرعان ما يهاجم حياته مجدداً وقد صار طالباً في كلية الحقوق.

انعطافة الفيلم ستأتي من كون الأحداث التي نشهدها قادمة من ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومعاودة ظهور هانا في حياة مايكل سيكون من باب «الهولوكوست» الواسع القادر على تمرير كل الأفلام، فمع قيام مايكل برفقة زملائه في كلية الحقوق بمتابعة ملابسات محاكمة لمسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في «أوشفيتس» تظهر هانا مجـدداً قادمـة مـن ماضيها القريب، وقد كانت من عناصر المخابرات الألمانية «إس إس».

أعود التأكيد على رهان دلداري الدائم على الحكاية التي يحملها السيناريو، ولعل الفعل التشويقي يكون على الدوام مبنياً وفق خيال أدبي سابق للسينمائي، ويمكن تعميم ذلك على أولى أفلامه «بيلي إيليوت»، و«ساعات»، وصولاً إلى فيلمنا الذي نتناوله هنا.

يدور فيلم «صاخب جداً وقريب للغاية» حول أوسكار شايل «توماس هورن»، ويحافظ دلداري على شخصيته الروائية، بوصفه يلتقي مع أوسكار غونتر غراس في«طبل الصفيح»، لكن أوسكار في الفيلم ليس قزماً، بل هو فتى في العاشرة من عمره، ويقرع على الدوام بدل الطبل دفاً في أحياء نيويورك.

أوسكار مخترع صغير، حاد الذكاء، محاط برعاية والده (توم هانكس) الذي يرعى هواياته وتطلعاته واكتشافاته. انهيار برجي التجارة العالميين سيكون نقطة الانعطاف الدرامية في الفيلم، ونحن نشهد انهيار حياة أوسكار كون والده سيكون في إحداهما، وهنا سيمضي الفيلم في خطين متوازيين، الأول يعتمد تلقي أوسكار نبأ وفاة والده وخيالاته لما حدث لوالده أنثاء الهجوم، والذي يكتمل مع نهاية الفيلم بعد تتبعنا للرسائل التي يتركها الأب على الهاتف قبل أن ينهار البرج، التي يسمعها جميعاً أوسكار ولا يقوى على الإجابة عنها، خصوصاً تلك التي تقول «هل أنت هنا!» لتتكرر كـ«لازمة».

بينما يتمحور الخط الثاني حول ما سيصنعه أوسكار للتغلب على مرارة موت والده، بالاعتماد على لغز يلمله أوسكار بعثوره على مزهرية بداخلها ظرف صغير فيه مفتاح وقد كتب عليه «بلاك»، إضافة لقصاصة جريدة تكون في جيب بنطال والده وضع خطاً فيها تحت عبارة «تابع البحث»، وليقوم أوسكار بشيء جنوني، ألا وهو تجميع عناوين كل مَن كُنيته «بلاك» في نيويورك، وعلى طريقته الخاصة المدهشة، والقيام بزيارتهم مشياً على الأقدام وتجريب المفتاح على أبوابهم.

مأساة أوسكار الشخصية تبقى شخصية في مسارها الظاهري، لكنها مع تنقلات أوسكار وحركيته المدهشة سرعان ما تمسي ملفاً ضخماً عن العذاب الإنساني، فمع مأساته يجمع مآسي كثيرة، فهو يقوم بزيارة 472 شخصاً ويلتقط لهم الصور ويوثق قصصهم في دفتره، إلى أن يكتشف لغز المفتاح، ولينتهي بالأرجوحة، التي سينفذ من خلالها ما أوصاه والده به، ألا وهو أن يقوم من دون مساعدة أحد بالتأرجح بها، والإطباق على شعور الحرية الذي تمنحه إياه، كما قد رأينا الأب يقول لأوسكار منتصف الفيلم.

تويتر