«مرتفعات ويذرينغ».. فيلم مأخوذ عن كتاب إميلي بــــرونتي الشهير

السينما تضبط الروايـة متلبّسة بجمـالهـا

صورة

عليّ أن أبدأ من اللقطة الافتتاحية مع فيلم Wuthering Heights «مرتفعات ويذرينغ» 2011 للمخرجة البريطانية أندريا أرنولد. رسوم طفولية على الجدران، ومن ثم رجل يمضي ويضرب نفسه بالجدار الذي يرتد عنه إلى الأرض، ومن ثم يعاود الفعل نفسه مرة أخرى، وعندما يبدأ غصن شجرة بالنقر على النافذة يكون الرجل مازال على الأرض، وحينها يبدأ بضرب رأسه بأرضية الغرفة بالتوازي مع نقرات ذلك الغصن، ومن ثم مشهد خارجي، حشائش بطول الانسان وريح قوية يمتزج صوتها العاتي بصوت حفيف تلك الحشائش.

قطع لأقول ليس لهذا الرجل أن يكون إلا هيثكليف، وقد جسد شخصيته جيمس هاوسون، بما يمحو تماماً كل ما فعله ممثل بحجم رالف فينس، حين لعب تلك الشخصية عام 1992 في نسخة سينمائية من رواية اميلي برونتي أخرجها بيتر كوسيمسكي، وقولي ذلك له أسباب كثيرة لها أن تتضح مع عرضي لنسخة أرنولد، بينما لعبت شخصية كاثي جوليت بينوش، والسؤال الذي يطل برأسه هنا: ما الجديد الذي قدمه هذا الفيلم لرواية تم تجسيدها سينمائياً أكثر من مرة وقد كتبتها اميلي برونتي عام 1845؟ ولعل الإجابة عن هذا السؤال ستكون واضحة وصريحة وملخصة بكلمة واحدة ألا وهي الكثير الكثير مكررة مرتين.

ثمة سحر ما في تتبع الكيفية التي ينتقل فيها عمل أدبي إلى السينما، ولعل أول ما يحضر في هذا الخصوص يكون على اتصال بالمعالجة السينمائية، وبالتالي نقل عمل إبداعي من وسيط إلا آخر له عالمه الخاص، وفي آليات التلقي يمكن الحديث عن الانتقال من الورق إلى الشاشة، ومن فعل القراءة إلى فعل المشاهدة، ولعل فعل ذلك مع ما صنعته أندريا أرنولد برواية برونتي سيكون آسراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى نقدي، فنحن حيال فيلم مبني برصانة مدهشة متأسس أولاً على التقاط ذكي للرواية، وهذا على الصعيد الدرامي، بينما يأتي الفيلم على الصعيد البصري بمثابة قطعة فنية تريد لنا أن نعيش الفيلم أولاً، بوصفه، أي الفيلم، فعل استثمار بصري بالمادة الدرامية الرائعة التي صنعتها برونتي.

معالجة سينمائية

المعالجة السينمائية للرواية تستدعي حذف الآلية السردية التي اتبعتها برونتي في رواية روايتها، وأقصد هنا السيد لووكوود الذي يأتي مستأجراً لأحد البيوت المحيطة بمرتفعات ويذرينغ، والذي تروي له الخادمة قصة هيثكليف وكاثي وهارتون وأيزبيلا، ففي منطق سينمائي لا داعي لهما، فالكاميرا هي من ستكون الراوي، والتي تلغي بالضرورة تلك الآلية الروائية، لكن وأنا أعود إلى الرواية سيستوقفني ما تقوله الخادمة للسيد لوكوود حين تبدأ بسرد قصتها على مسامعه: «ها أنت ذا تنعس وتنشد الفراش، كان يمكنني أن أروي لك قصة هيثكليف أو ما يهمك سماعه منها في ست كلمات فقط»، ضعوا خطوطاً كثيرة تحت «ست كلمات»، فهذا التكثيف ليس إلا السينما، إنها الصورة التي ستتولى اختزال 50 صفحة بلقطة واحدة تمتد لدقيقة أو دقيقتين، واللقطة التي سرعان ما تصبح مشهداً وهكذا، وهذا تماماً ما على السينما أن تفعله حيال العمل الأدبي، ألا وهو إيجاد المعادل البصري لما نقرأه، خصوصا إن كان هذا العمل قد قرأه عشرات الملايين حول العالم، ويحمل ما يحمل من تصورات بصرية حرضتها عملية القراءة.

موقع تصوير

في الفيلم سيكون موقع التصوير عامل حسم في بنية الفيلم، إذ يمكن التعامل مع الريح بوصفها عنصراً درامياً ذا حضور دائم، فمع اللقطة الافتتاحية التي بدأت بها تجري قفزة زمنية أو «فلاش باك» دون أية مقدمات تضعنا مع الليلة التي يحضر فيها السيد برانشو هيثكليف، ويقول لكاثي وهارتون بأنه التقطه من الشارع، إذ يحدث ذلك مع تصوير المناخ الذي يحيط بعودة السيد برانشو، ومن ثم يمضي الفيلم في تركيزه على هيثكليف الصامت أغلب الوقت، ولعل الحوار في الفيلم لا يتعدى بضع عبارات ضرورية، كون الريح من تتولى الكلام، كذلك الأمر مع طقطقة الحطب في المدفأة، لهاث الكلاب، وفي اطار عام لها أن تكون الأجواء الغرائبية للرواية نفسها التي تنتمي إلى «الغوثيك» أو ما درج على ترجمته عربياً بـ«الفن القوطي»، فنحن سنعرف انجذاب هيثكليف إلى كاثي، والعكس الصحيح، في تلك اللقطة الرائعة التي ستكون واحدة من لقطات كثيرة من الصعب نسيانها في الفيلم، وذلك حين يركب هيثكليف الخيل خلف كاثي، وكيف تلعب الريح بشعرها فنراه يغمر الكاميرا أو وجه هيثكليف، كون الكاميرا تتحول إلى كاميرا ذاتية نرى من خلالها ما يراه هيثكليف بعينيه، كذلك الأمر حين يلعبان بالوحل، ويمكن لعضة الكلب التي تتعرض لها كاثي أن تتحول إلى النقطة التي تتصاعد فيها الأحداث درامياً، بينما مخرجة الفيلم تنوع من اللقطات بين لقطات الكاميرا المحمولة وتلك الثابتة أو البانورامية وغيرها.

أعود إلى ما قلته عن رالف فينس لأوضح أن هيثكليف شخصية «مرتفعات ويذرينغ» الرئيسة، والشخصية المفصلية في تاريخ الأدب العالمي، لا يمكن لها أن تكون شخصية رجل أبيض، لابد له أن يكون زنجيا، كما ظهر مع أندريا أرنولد، أو كما يرد في الرواية «إنه شرير صغير ألقت به البحار من الهند أو أميركا أو إسبانيا»، ولأقتبس أيضاً ما يرد في الرواية على لسان هيثكليف نفسه حين يقول لدى منافسته ادجار لينتون على كاثي «أتمنى أن يكون لي شعر اشقر وبشرة ناصعة البياض وثياب شبيهة بثيابه، وعيشة تماثل عيشته، وفرصة لأكون ثرياً مثلما سيكون».

شخصية أدبية

هيثكليف واحد من الشخصيات الأدبية الثرية جداً، والتي تحمل طبقات ومستويات نفسية كثيرة، ووصفه بالشرير هو أتفه وأسهل وصف يمكن الخلوص إليه حين مقاربته، إنه كائن بري، وفي جانب آخر فإنه يحتمل أن يكون ابن المستعمرات المسحوق أو المظلوم، ويحتمل غنى شخصيته أن يكون الغريب الذي يقتحم عالماً فيمضي في تخريبه، لأنه لا ينتمي إليه، أو لأن العالم لم يعترف به وراح يظلمه ويمرغ به التراب، فهيثكليف يصعب ترويضه، فمعه كما نشاهد في الفيلم يمسي تعميده عملاً عنيفاً سرعان ما سيهرب منه إلى السهول المترامية والريح تلعب بها، إنه ومجدداً، كائن يصعب ترويضه أو «الجرو الغجري»، كما يرد في الرواية، وكل ما سيرتكبه بمن حوله يحمل دوافع كثير تلتقي وتفترق، تتناغم وتتصارع.

فيلم «مرتفعات ويذرينغ» كما قدمته أندريا أرنولد محتكم على جماليات كثيرة، تجعل من مشاهدته أكثر من مرة فعل اكتشاف دائماً لجماليات الصورة التي قدمتها في هذا الفيلم، والسرد الغني والمميز الذي عالجت به رواية برونتي كما لم يفعل أحد من قبلها، وهذا حكم قيمة أطلقه وأعود إلى مشاهدة الفيلم مجدداً بعد انتهائي من الكتابة عنه، وقد أعود أيضاً إلى فيلمها «حوض السمك» الذي نالت عليه جائزة لجنة التحكيم الخاصة في «كان» .2009

تويتر