عن مصير سائق أميركي في العراق
«مدفون».. فيلم يأتيــكم من القبـر
ما الذي ستفعله إن أفقت من إغماءة أو ما شابه ذلك ووجدت نفسك في تابوت مدفون تحت الأرض؟ الإجابة على الأرجح هي الموت، هذا ما لم تكن ميتاً أصلاً! طبعاً هذه إجابة تلغي كل ما يمكن أن نشاهده في فيلم Buried «مدفون» المعروض حالياً في دور العرض المحلية، والذي يمتد قرابة الساعة والنصف، إذ إن اكتشاف ذلك ومن ثم التخبط داخل التابوت لن يستغرق بضع دقائق ومن ثم ينتهي كل شيء، وبالتأكيد فإن الأمر سيكون عتمة بعتمة ولن نسمع إلا تخبط الضحية ومن ثم هدوء تام يقول لنا لقد لفظت الضحية أنفاسها.
لكن وفي زمن سرد هذا الفيلم الذي أخرجه رودريغو كورتز يمكن لنا أن نتابع فيلماً كاملاً تدور أحداثه في المساحة الضيقة للتابوت، مع تبديد العتمة بوسائل بسيطة جداً لها أن تضعنا أمام الممثل الوحيد في الفيلم الذي يظهر بالصوت والصورة وهو ريان رينولدز الذي لعب شخصية بول كونوري، وما عدا هذه الشخصية فإننا سنسمع صوت الشخصيات الأخرى دون أن نراها.
رسائل سياسية
قبل مشاهدة هذا الفيلم كنت مستعداً تماماً لما يحمله من خلال مشاهدة مقاطع منه، لكنني كنت أعتقد أنه لن يكتفي بالبقاء في حيز التابوت وأن الفيلم سيخرج لا محالة إلى مساحات أخرى على هيئة «فلاش باك» يستعيد من خلاله بول كونوري ما حدث معه أو أي شيء من حياته السابقة، لكن ذلك لم يحدث، بما وضع مخرج الفيلم وكاتب السيناريو كريس سبارلينك أمام تحد كبير يتمثل بالكيفية التي يمكن لهما أن يبقيا فيها انتباه المشاهد مشدوداً إلى ما يشاهده، وفي ذلك رهان الفيلم الأساسي، كما سنكتشف أن الفيلم يمرر رسائل سياسية على اتصال بالاحتلال الأميركي للعراق وما يشكله الفرد الأميركي من أهمية بالنسبة للسياسيين عندما يقع في ورطة لا علاقة له بها - كما يدعي الفيلم - لأن بول لم يكن صاحب القرار في غزو العراق وهو ليس إلا سائق شاحنة يعمل في شركة أمنية خاصة اسمها «سي آر تي» وهو لا يحمل سلاحاً ولا يقتل أحداً، وعثورنا عليه في تابوت ليس إلا عملية اختطاف له سنكون شهوداً خلال الفيلم على عملية التفاوض معه من أجل إطلاق سراحه!
مع المضي في أحداث الفيلم سأكون مشغولاً طوال متابعته بالحلول التي على الفيلم أن يقدمها في سياق سرده، والاقتراب قدر ما هو ممكن من جعلنا ننسى أن الكاميرا موجودة أمام بول وأنها هي من تتولى سرد كل ما نراه، فما من حلول على طريقة داني بويل في فيلم «127 ساعة» الذي يلتقي مع «مدفون» كونه أيضاً متمركزاً حول شخصية واحدة تكون في ورطة كبيرة، في الأول تعلق ذراع أرون (جيمس فرانكو) في صخرة تجعله يمضي 127 ساعة وهو يسعى للتخلص من تلك الصخرة، وهنا يكون الصراع بقاء على اتصال بتدبر أمور الأكل والشرب مع استخدام ما يشبه توثيق ما يمر به آرون من خلال كاميرا صغيرة تكون بحوزته يستخدمها لتسجيل ذلك، بينما يكون بول في «مدفون» على اتصال بالخارج، وهو مخطوف ولديه هاتف سيجري من خلاله اتصالات كثيرة، كما أن الأدوات التي بحوزته لن تكون أشياء يحملها معه بل هي أدوات وضعت من قبل خاطفيه بقصد التواصل معه والحصول على الفدية التي يطالبون بها لقاء إطلاق سراحه، كما أن كل ذلك يجري في نطاق مهلة يحدد خاطفوها بأنها تنتهي في الساعة التاسعة بينما يكون أول اتصال لنا مع الزمن في الفيلم يقول لنا إننا في الساعة السابعة ولينتهي كل شيء في الثامنة والنصف، وهذا وقت قريب من زمن الفيلم، وقولي ذلك كان على اتصال بتخيلي الفيلم لو كان لقطة واحدة فقط، وبالتالي وفي هذه الحالة يكون الاثر أقوى، حيث يتطابق الزمن الحقيقي مع زمن السرد.
عتمة
يبدأ الفيلم بالعتمة ويبقى ما يتجاوز الدقيقة ولا شيء على الشاشة إلا العتمة، ومن ثم نسمع صوت أنفاس سرعان ما يتداخل معها صوت سعال، ومن ثم صوت من يتحرك في نطاق ضيق وخشبي أيضاً، ولا يتم تبديد تلك العتمة إلا بولاعة تضاء فإذا بنا نشاهد أولا عين بول وأنفه، وليقطع ذلك صوت هاتف محمول يرن وللدقة يرتج، ومع إجابة بول على الهاتف سينسج أول خيط من خيوط حبكة الفيلم، فالفيلم يبدأ مباشرة من أزمته المتمثلة بكون بول محتجزاً في تابوت تحت الأرض، ولتتم على الفور الإجابة عن السؤال «كيف حدث ذلك؟» ولدى إجابة الفيلم على ذلك نكون قد دخلنا في تبريرات درامية لوجود الهاتف والولاعة ومن ثم المصابيح، كما أننا سنعرف أن بول ليس إلا سائق شاحنة تعرضت قافلته لكمين في بعقوبة «العراق» ومن ثم جرى اختطافه ووضعه في هذا التابوت وليس الهاتف الموجود معه والذي تكون أحرفه بالعربية لكن المقطعة، ويريد منه مختطفه أن يدفع فدية مقدارها خمسة ملايين دون أن نعرف ما العملة لأن الرجل الذي يتكلم مع بول يكتفي باتباع الرقم بكلمة Money ومن ثم يجري المتحدث خصماً يصل بالمبلغ إلى المليون، ولكن من أين لبول هذا المبلغ أو حسب تعبيره لو كان لديه هذا المبلغ لما كان في العراق. سيكون الهاتف عاملاً حاسماً في تقديم عقد درامية يجرى حلها ومن ثم تصعيدها، أولها الطريقة التي سيصل بها إلى الموظف المسؤول عن الرهائن في العراق، وليصل إلى ذلك الشخص ستكون هناك سلسلة من الاتصالات والحظ العاثر، إذ إنه سيبدأ بالاتصال برقم الطوارئ في أوهايو، وإلى جانب ذلك سيتصل بزوجته دون أن يتمكن من التكلم معها في البداية، ومن خلال هذا الهاتف سيضعنا الفيلم أمام سلسلة متصلة من المآزق التي يعيشها بول مع من يفترض أن عليهم أن ينقذوه، والعامل البصري الوحيد الذي نراه خارج إطار التابوت سيكون بالرسائل المصورة التي يرسلها خاطف بول وهو يريه زميلة له يجهز عليها بطلقة مسدس. في هذا الفيلم سيبقى المشاهد مشدوداً بسؤال مفاده هل ينجو بول أم لا؟ ولاستمرار هذا السؤال حتى النهاية فإن مآزق درامية كثيرة سيمر بها بطل الفيلم، يتخلص من واحدة ويقع في اخرى وكلها تعطي بوارق أمل طفيف بأنه سيتمكن من النجاة، لكن وبعيداً عن الخوض في ما سيحصل لبول، فإن الفيلم يقول في الوقت نفسه شيئاً بخصوص المواطن الأميركي وورطته في العراق، فهو ليس إلا في تابوت وليس المهم نجاته بل عدم ظهوره على قناة الجزيرة، بل إن بول وفي خضم ما يعانيه سيتلقى من شركته مكالمة تعلن فيها تنصلها من تعويضه ومبلغ التأمين الذي يستحقه، وهذا كل ما يهم الشركة التي يعمل لديها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news