فيلم للمصري نمير عبدالمسيح

«الأقـبـاط وأنـا».. فـي انتظار ظهور «العذراء»

صورة

بدت عملية ملاحقة فيلم نمير عبدالمسيح «العذراء والأقباط وأنا» على شيء من ملاحقة هذا المخرج لظهور السيدة العذراء في مصر، بمعنى أن مشاهدتي هذا الفيلم لم تكن في مهرجان الدوحة ترابيكا، حيث عرض للمرة الأولى ونال جائزة الفيلم الوثائقي في دورته الأخيرة، ولا في مهرجان برلين، حيث عرض في دورته ،62 لكن في الدورة 15 من مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة الذي اختتم في 28 يونيو الماضي وقد فاز فيلم «العذراء والأقباط وأنا» بجائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل فيها.

ظهر الفيلم ولم تظهر العذراء، وهذا الظهور عليه أن يكون في مصر، وبالتالي المشاهدة أيضاً، ولعل تتبع هذا الفيلم الوثائقي وبنائه سيكون لا محالة عملية نبش «سوسيولوجية» للمعتقدات الشعبية وعلى هدي عنوان الفيلم نفسه بمعنى أن البحث عن ظاهرة اجتماعية تتمثل في ظهور السيدة العذراء في بقاع كثيرة من مصر، كما هو معتقد ستتبع في الفيلم بمعاينة المجتمع القبطي في مصر، طقوسه وعاداته ومعاشه، وغير ذلك مما يمليه فعل المجاورة للمسلمين أو مجتمع يشكل المسلمون الأغلبية فيه، وصولاً إلى ضمير المتكلم «أنا» وهي أنا المخرج الذي سيكون منغمساً تماماً بموضوعه بوصفه مصرياً قبطياً يأتي من فرنسا لمعاينة موضوعه والمضي خلفه مستعيداً في الوقت نفسه ذاته، ماضيه وطفولته ومن ثم أمه التي سرعان ما تلحق به وتلعب دوراً في انتاج الفيلم.

وعليه يمكن اتخاذ العنوان مفتاحاً لمقاربة هذا الفيلم، وبالتالي تنويعات السرد فيه التي ستبقى ملتصقة بالوثائقي، فنحن في النهاية لن نكون إلا حيال وثيقة فيلمية للأقباط في مصر، والمعتقدات الغيبية المتأتية من ضرورات حضور الأمل في الحياة من خلال الاتكاء على الغيبي وتفعيله متى انخفض منسوب هذا الأمل. لكن وقبل المضي مع ما يقدمه الفيلم يجب التأكيد على أن الفيلم متمركز حول جماعة بشرية مندرجة تحت تصنيف ديني لا يفصلها في النهاية عن محيطها الكامل.

يبدأ الفيلم من «أنا» المخرج نمير عبدالمسيح، فهو مشغول بظهور العذراء في مصر، وهو يجمع كل ما له علاقة بهذا الأمر لكن من فرنسا حيث يعيش، ومع تشابك الخيوط وتعدد الروايات سيتشكل الدافع الرئيس للفيلم ألا وهو الفضول، وبالتالي معاينة هذا الاعتقاد على الأرض، وزيارة الأمكنة التي يقال إن السيدة مريم العذراء قد ظهرت فيها، وبالتالي سيقرر عبدالمسيح الذهاب إلى مصر، وخير ما يبدأ به كنيسة الزيتون في القاهرة، ولعل التأريخ لظهورها سيكون في عام ،1968 إذ إننا سنتعرف في الفيلم إلى أن الرئيس جمال عبدالناصر قد جاء ليشاهد هذا الظهور، وهنا سيكون ما يروى في الفيلم فيلماً وثائقياً بحد ذاته، إذ سيبدو هذا الظهور على اتصال بمسعى الحكومة المصرية حينها في رفع همة الشارع المصري، وربط هذا الظهور بالصراع مع إسرائيل، خصوصاً أننا نتكلم على أقل من سنة من هزيمة .1967

لن يكتفي الفيلم في ما تقدم، ستكون دينامية الفيلم عالية جداً، وستمضي الكاميرا في تتبع ظهور العذراء وهذا المعتقد الذي يؤمن به الجميع، كما أن الوثائق والصور التي يجري تجميعها ستزيد الأمر غموضاً وتحيلنا إلى المتخيل أكثر من الواقعي، بوصف الظهور أمراً مجازياً يتأتى من قناعة المؤمن لا من المشاهدة الحقة، الأمر الذي يتركه الفيلم لنخلص إليه من دون اقحامات أو تدخلات، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام أحوال الأقباط في مصر، ومع وصول المخرج عبدالمسيح صعيد مصر سنكون أمام بانوراما تسجيلية للطقوس والأعياد والتقاليد القبطية في صعيد مصر، مروراً بقرية المخرج وجدته وخالته وأخواله وأولادهم، حيث الفلاح المصري، والقرى التي يعيش فيها المسيحيون مجاورين للمسلمين وعلاقتهما ببعضهما بعضا، وفعل المشاركة المنقوص بينهما، حيث لكل حيه ومنطقته التي لا تختلط بالأخرى، وغير ذلك مما يجعل التواصل موجوداً في حده الأدنى.

أهم ما في فيلم نمير عبدالمسيح ليس موضوعه فقط، بل الكيفية التي قدم فيها هذا الموضوع، وتحويل الوثائقي إلى حكاية لا يكون التوثيق فيها متأتياً من معلومات وإحصاءات وأرقام، بل من سرد وتنويع في هذا السرد، والاستفادة من العناصر السردية في هذا السياق، فالفيلم هو رحلة بحث المخرج في ظاهرة ظهور العذراء، ما يجعل من الصعب الفصل بين الشخصي والأسري والتاريخي في هذا الفيلم، ومعه استحالة وقوع المخرج على تصوير ظهور العذراء، حيث سيجري نقل الفيلم إلى مستوى روائي طارئ إن صح الوصف، أي أنه سيمثل هذا الظهور بالاستعانة بأقربائه وقيامه بالبحث عن فتاة تلعب هذا الدور من خلال الاستعانة بالكنيسة القبطية، ولكن ذلك لن يدعنا ببعيدين عن كون الفيلم وثائقياً، وهؤلاء البشر الذين سينغمسون في الأدوار التي يوزعها عليهم نمير عبدالمسيح لن يدعوا جانباً ما هم عليه في الواقع، طيبتهم ومعتقداتهم وما إلى هنالك من كل ما سيظهر في هذا الفيلم جلياً.

فيلم «العذراء والأقباط وأنا» معبر وثائقي مهم جداً لمقاربة مصر اليوم، وكل ذلك في بناء بحثي ينبني أولاً من مسعى المخرج نفسه، الذي سيشارك المشاهد كل شيء، سواء تعثر تصوير الفيلم ومشكلاته المالية أو حتى علاقته بأمه، وغير ذلك مما يمنح الفيلم تلك الحميميـة التي تتجلى أكثر ما تتجلى في ربعه الأخير وهو يصور فيلم ظهور العذراء بعد تعذر ظهورها في الواقع.

تويتر