في ذكرى استشهاده الـ 40

غسان كنفاني.. أدب فـــــــيه الكثير من السينما

غسان كنفاني رحل في الـ 36 من العمر. أرشيفية

مهجّراً من بلده ولم يتجاوز الـ12 من عمره، تتلقفه العواصم، وتنقلاته من عاصمة إلى أخرى تزيد من إيقاعه الإبداعي، والسكر في دمه مرتفع دائماً، بالحلاوة التي تقف على نقيض تلك المرارة، بإبرة أنسولين تعيده إلى منسوبه الطبيعي يومياً، ومن ثم داء النقرس بينما كانت تنتظره في نهاية النفق يد القتل الإسرائيلية، في بيروت وبالحازمية في الثامن من يوليو ،1972 تحديداً ستنفجر به سيارته، ولم يتجاوز الـ36 من عمره.

40 سنة مضت على استشهاد الكاتب المناضل غسان كنفاني، وهناك مع مرور كل تلك السنوات ما يمنحه على الدوام الصلاحية الكاملة ليكون حاضراً على الدوام، ولعل العودة إلى أعماله الأدبية التي كانت في سباق مع زمنٍ، كان يحس به وجيزاً، ستضعنا أمام تلك الحقيقة الساطعة، وستبدو رواياته معبراً نحو ما ستحمله الأسطر التالية، فهنا لست بوارد المراثي التي كتبت طويلا ولاتزال عن هذا الرجل الاستثنائي، بل في مسعى لتتبع منتجه الإبداعي، وانتقاله إلى الشاشة الكبيرة مرات كثيرة، ولعل المقدمة التي بدأت بها تطمح إلى القول إن حياة هذا المبدع نفسها ومصائره صالحة تماماً لفيلم، لا بل إن تعقب صوره وبالتالي هيئته ستضعنا لا محالة أمام شخصية «كارزمية» تمتلك تلك الرهافة الرومانسية، والتي تحمل في الوقت نفسه ملامح مرحلة مفصلية في التاريخ البشري لنا أن نسميها مرحلة الأفكار والأحلام الكبرى، وتجاور الفعل الإبداعي مع الفعل النضالي لنكون أمام غسان الكاتب والمناضل والعاشق والمغامر والشهيد، ولعل اجتماع كل تلك الصفات وصفات أخرى كثيرة ستشكل غواية لاجتراح المثل والقدوة، وما إلى هنالك من صفات تعاني ما تعاني في أيامنا هذه، مع انزياح تلك الصفات إلى مساحات مغايرة لا لشيء إلا لأن زمناً آخر نعيشه، والحوامل الفكرية والإبداعية للفعل الثوري تجترح تعاريف جديدة تلتقي، ولا تلتقي مع ستينات القرن الماضي. إن إعادة قراءة روايات كنفاني، وأركز هنا على روايات كون هذا ما فعلته، سيضعنا أمام درامية مصاغة بحنكة كاتب كبير، بالتناغم مع ملحميته التي لن تمنح فرصة لتسرب أي من الغنائية أو الانشائية إلى تلك الروايات، حيث مصائر الشخصيات معبر لمصائر شعب بأكمله، دون أن يكون الفصل بينهما أمراً يضر بأحدهما رغم استحالة القيام بذلك، والقدرة التصويرية التي يحملها أدب غسان كنفاني ستضعنا مباشرة أمام احتواء الروايات على إمكانيات سينمائية ساطعة، تجعل من عملية تحويل تلك الروايات إلى أفلام، أي نقلها من وسيط إلى آخر غواية قد تراود أي سينمائي أثناء فعل القراءة، ولتوضيح ما أقوله هنا فإنني سأستعين بما يقوله المخرج والناقد قيس الزبيدي عن أدب غسان كنفاني، في معرض حديثه عن علاقة السينما بالرواية في كتابه «المرئي والمسموع في السينما»، وأقتبس هنا: «أدب غسان كنفاني (رواياته) ليس أدباً خالصاً إنما أدب فيه الكثير من السينما، فيه سينما أكثر بكثير من أفلام كثيرة، وأكثر بكثير من الأفلام التي اقتبست من رواياته».

«ما تبقى لكم»

أفلام كثيرة اقتبست من أعمال غسان كنفاني الروائية والقصصية، مثلما هي الحال مع المخرج العراقي قاسم حول صاحب «عائد إلى حيفا»، إنتاج عام ،1981 الرواية نفسها التي أعيد تصويرها عام ،1995 بعنوان «المتبقي» إخراج سيف الله داد، وإنتاج إيراني سوري مشترك، وبتمثيل كل من جمال سليمان وسلمى المصري وغسان مسعود وآخرين، كما قام المخرج السوري خالد حمادة باقتباس رواية «ما تبقى لكم» وحوّلها فيلماً عام ،1972 كما أنتجت المؤسسة العامة للسينما والمسرح في بغداد، عام ،1973 فيلماً روائيا قصيراً (22 دقيقة)، بعنوان «زهرة البرقوق» إخراج ياسين البكري.


أوافق بشدة على ما تقدم، ولعل ما أنوي فعله هو التدليل على ذلك، من خلال فيلم «المخدوعون» للمخرج المصري توفيق صالح، إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية عام ،1972 والمأخوذ عن رواية «رجال في الشمس»، دون المضي مع أفلام أخرى كثيرة اقتبست من روايات كنفاني، وذلك لسبب مخبري، إن صح الوصف، ووفق تتبع مدهش لما حملته الرواية وما قدمه الفيلم، والذي يمكن وصفه دون تردد بواحد من أهم أفلام السينما العربية.

قصة الرواية والفيلم تتمركز على مصائر ثلاث شخصيات رئيسة (أبوقيس وأسعد ومروان)، وهربهم من حياة البؤس في المخيمات، أبوقيس (محمد خير الحلواني) في خريف العمر، يتوق لتحصيل مال من عمله في الكويت بما يتيح له العيش تحت سقف بيت وحوله بضع أشجار زيتون، بينما يكون أسعد الشاب (بسام لطفي)، هارباً من نشاطه السياسي وملاحقة الأمن له، أما مروان (صلاح خلقي)، فهو في مقتبل العمر، يسعى للذهاب إلى الكويت بعد أن توقف أخوه عن ارسال المال له وعائلته، وبعد أن قام والده بالزواج بامرأة أخرى ومفارقته والدته، يضاف إليهم أبوالخيزران (عبدالرحمن آل رشي)، صاحب الشاحنة التي ستهربهم إلى الكويت، والتي تحمل خزان مياه عليهم أن يختبؤوا في جوفه لدى عبور السيارة الحدود العراقية، وكذلك الأمر لدى عبور الحدود الكويتية، ونحن في أغسطس، ودرجة الحرارة تتخطى الـ.50

تتحرك الرواية في زمنين، كذلك الفيلم، الحاضر الذي يتمثل في قصة عبور كل واحد منهم من الأردن إلى العراق ومن ثم إلى الكويت ومعاناتهم مع المهربين، فقرهم وبؤسهم وأحلامهم المحطمة، وعلى شيء سيجعل من الخزان مجازاً وحاملاً رمزياً للفلسطيني المهجر. الزمن الثاني يكون «فلاش باك» يستعيد من خلاله كل شخصية دوافع هربه وحياته في الشتات والمخيمات، الهرب الذي سيساند العبارة الافتتاحية التي يبدأ بها الفيلم «وأبي قال مرة، الذي ما له وطن، ما له في الثرى ضريح، ونهاني عن السفر».

تنقسم الرواية إلى ستة فصول، هي على التوالي: «أبوقيس، أسعد، مروان، الصفقة، الطريق، الشمس والظل، القبر»، ولنا أن نقول إن الفيلم كذلك لنؤكد أن مسار الفيلم متسق تماماً مع التقطيع الروائي، الذي سيكون تقطيعاً مونتاجياً بامتياز، ومع بداية الفيلم بلقطة طويلة لرجل قادم من البعيد، بينما هيكل عظمي مرمي أمامنا، فإننا سنكون حيال أبوقيس الذي يصل واحة يلتقط فيها أنفاسه بعد مسيره الصحراوي الطويل، وهنا سيبدأ «الفلاش باك» «الأرض الندية، فكّر، هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا، أمس لم تمطر! لا يمكن أن تمطر السماء الآن إلا قيظاً وغباراً! أنسيت أين أنت؟ أنسيت؟»، أقتبس هذا المقطع من الرواية والذي سنشاهده تماماً في الفيلم، وهنا سيعود أبوقيس إلى حياته في فلسطين، ومن ثم تهجيره، وذاك الاستاذ الذي يأتي قريتهم، والذي لا يعرف الصلاة لكنه يعرف استخدام السلاح، بعد أن يسمعه يعلم ابنه أين يقع شط العرب.

الفيلم لا يحتاج إلى كاتب حوار، فالحوار هو تماما حوار الرواية، والبؤرة الدرامية التي سنتعرف فيها إلى جميع الشخصيات ستكون محل المهرب العراقي، فما أن ننتهي من التعرف إلى حياة أبوقيس، وإضافات الفيلم المتمثلة في تمرير صور فوتوغرافية لصور تهجير الفلسطينيين، والمخيمات التي أقيمت لهم، والتآمر السياسي عليهم، الأمر الذي لا يذكر على هذا النحو في الرواية، سيدخل أسعد إلى محل المهرب العراقي وسنمضي معه في زمنيه، أي زمن مفاوضته المهرب وعناده كونه تعرض للخديعة على يد المهرب الذي أخذه من الأردن، وصولاً إلى حياته السابقة لذلك، كما أن الأمر نفسه سيكون مع مروان الذي سيصفعه المهرب لأن هذا الأخير سيهدده بتبليغ الشرطة عنه.

لن أمضي أكثر في سرد الأحداث، لكن عليّ أن أؤكد مراراً أن في الرواية كل الحلول لعملية السرد السينمائي، الذي جاء مدهشاً ومتناغماً بصرياً ودرامياً، لا بل يمكن إلغاء عملية البحث عن معادل بصري لما نقرأه في الرواية حين مشاهدة الفيلم، وأدلل على ذلك (وهذا مثال من بين أمثلة كثيرة تمتد أيضاً لتشمل محرضات الذاكرة وانخطافها إلى الخلف في الفيلم )، بأن نهاية الفيلم وحين يقوم أبوالخيزران بالصعود إلى الخزان، ليخرجهم منه بعد أن تأخر عليهم أكثر من 20 دقيقة بدل سبع دقائق، فإن قطرة عرق ستقع من جبينه على سطح الخزان فإذا بها تتبخر، وهذا سرد بصري يقول لنا إن درجة الحرارة أصبحت في معدلات خيالية، وبالعودة إلى الرواية فإن هذا موصف تماماً كما سنشاهد وبثراء بصري ولغوي، ليس للسينمائي الحصيف إلا أن يجسده بدقة حتى يكون أمام مشهد مصاغ بعناية ويقول كل شيء بصرياً، وأقتبس هذا المقطع من الرواية لتوضيح ذلك: «الفوهة المفتوحة بقيت تخفق بالفراغ لحظة، كان وجه أبي الخيزران متشنجاً وشفته السفلى ترتجف باللهاث والرعب، سقطت نقطة عرق عن جبينه إلى سطح الخزان الحديدي وما لبثت أن جفت.. ووضع كفيه على ركبتيه وقوس ظهره المبتل حتى صار وجهه فوق الفوهة السوداء». أعود إلى ما بدأت به من حديثي عن فيلم يتناول غسان كنفاني نفسه، وأقتبس من مقال للناقد الفلسطيني بشار إبراهيم في مجلة «الجزيرة الوثائقي» في معرض تناوله فيلم «سبتمبر 1970: هنا فلسطين»، إذ يورد «بكى المخرج العراقي قاسم حَوَل عندما سألته في لقاء مسجل عما يمكن أن يندم عليه اليوم، بعد تجربته الرائدة والمُؤسسة في السينما الفلسطينية؛ ما أبكى المخرج قاسم حَوَل أنه انصاع لرغبة غسان كنفاني، ولم يقم بتصويره، كأنما كان غسان كنفاني يرغب في أن يبقى في إهاب الجندي المجهول، كان همّه أن تذهب الكاميرا السينمائية لتصوير ما ينبغي لها أن ترصد.. الناس العاديين في المخيمات.. الفدائيين في القواعد.. المقاتلين في تدريباتهم، ومواجهاتهم. وعندما استشهد غسان كنفاني لم يكن بين أيدي السينما الفلسطينية، إلا القليل من المشاهد التي تظهره».

تويتر