فيلم للبناني دانيال جوزيف
«تاكسي البلد».. البحث عن بــيروت الضائعة
يمكن اعتبار التاكسي معبراً لنبش المدن، وسائقه ليس على الدوام ترافيس (روبرت دي نيرو) في «سائق التاكسي» ،1976 إنه أيضاً يوسف في الفيلم اللبناني «تاكسي البلد» لدانيال جوزيف في أولى تجاربه الإخراجية، والأمر لا يقتصر على حركية هذا التاكسي فقط، بل بالبلد أيضاً إن كنا نتتبع عنوان الفيلم، ووفق ما سيرويه يوسف لامرأة أميركية اسمها جوردان (كارينا لوغ).
هناك حقيقة مفادها أن التعرف إلى المدينة، أي مدينة، يمكن تحقيقه من خلال التاكسي وسائقه، كونه سيكون المراقب المتحرك للمدينة، القادر على الدوام على رصد أي شيء يتغير، مضافاً إلى ذلك تنوع من يستقل هذا التاكسي، إذ يتاح للسائق أن يعاين نماذج لا حصر لها من البشر، وبالتالي تناقضات هؤلاء البشر، وجوههم، حكاياتهم وصولاً إلى مصائرهم المتخيلة أو الواقعية، ووفق ذلك هناك الكثير من الأعمال الفنية والأدبية تمركزت حول هذه الحقيقة، والتي تجعل من سائق التاكسي مراقباً وشاهداً على الحياة اليومية للمدينة، وكل ذلك في بناء وسياق فنيين، مع التأكيد على أن الحياة اليومية هي المؤشر الأسطع للمتغير التاريخي والفكري والاقتصادي لأي مدينة.
يمكن لكل ما تقدم أن يكون معبراً نحو مشاهدة فيلم «تاكسي البلد»، ويمكن في الوقت نفسه ألا يعني ذلك أي شيء، لدى البحث عن رهانات الفيلم، والبناء الذي تأسس عليه، بما يحول ما أسهبنا في توضيحه نوعاً من إيراد كل ما افتقده فيلم «تاكسي البلد»، وما دام الحديث عن «تاكسي» فلكم أن تتوقعوا الكثير من التصوير الخارجي، لكن بعيداً عن أن يكون الأمر في «تاكسي البلد» على اتصال مع التفاصيل التي تقربنا من الحياة البيروتية، إذ يمكن للتصوير الخارجي أن يكون معقماً تماماً، أقرب للاستديو إن كان المسعى هو تناوب أشخاص على التاكسي الذي يقوده يوسف (طلال الجردي)، ولكل شخص عالمه الذي لن نعرف منه إلا ما يطفو على السطح، في تحويل استقلاله التاكسي فرصة لتقديم مفارقة أو شخصية علينا أن نعيدها إلى نموذج مسبق الصنع في الأذهان، فهذا بذيء وفهلوي ويعلق على كل امرأة قد تمر بجانب التاكسي، وتلك عازفة موسيقية، وأخرى امرأة عجوز يقرر يوسف أن ينزلها من التاكسي حين يعلق في ازدحام، وما بين ذلك سيخضع الأمر إلى مزاجية يوسف والكيفية التي يتلقى فيها الأشخاص، وما يمثلون بالنسبة إليه. ووفق ذلك سيكون يوسف مركز الفيلم الذي تلتقي عنده أشخاص كثر مكرسين لتحقيق إدعاء الفيلم بأنه كوميدي، وحين يعود يوسف في الذاكرة في استجابة لما تحرضه لديه جوردان، فإنه سيكون كذلك أيضاً، أي سننتقل من شخصية إلى أخرى، ومن حدث مهضوم إلى آخر مهضوم أيضاً، الصفة التي يمكن اعتمادها نقدياً متى كان الرهان هو العودة إلى القرية التي ولد فيها يوسف، وهو يجمع مشاهداته الطفولية في تتبع لكل ما هو كوميدي في تلك المشاهدات: كارلو الذي لا يهزم، والذي يأتيه متحدون من القرى والأماكن المجاورة، ومن ثم قصة حبه ومصيره العجيب، وكل ما سنتعرف إليه من خلال تلصص يوسف الطفل الذي يبقى خارج سياق الكوميديا سواء في صغره أو حين يكبر، وصولاً إلى حلم يوسف نفسه الذي لن يكون إلا بأن يصير أفضل سائق تاكسي في بيروت.
لكن يوسف الذي لا يتحلى بأي صفة كوميدية، لن يكون إلا تحت رحمة مآزق كثيرة، وهو متوتر، وسيعاني الفشل في الحب، وسوء فهم الآخرين لتطلعاته البسيطة التي لا تتجاوز الجلوس خلف مقود التاكسي والتجوال في ليل بيروت، فهو ليس بحال من الأحوال شخصية كوميدية مع أن بنية الفيلم تريد أن تفرض عليه ذلك، ومع البحث عن الكوميديا، فإن «الفلاش باك» الطويل الذي يعيدنا إلى قرية وطفولة يوسف ستختلف عن حاضر يوسف في بيروت بحيث تصبح الكوميديا مستعادة من خلال الإصرار على تقديم كل من في قريته كشخصيات كوميدية بالاستعانة بالأجواء القروية في السينما الإيطالية، وصيغة تجميع الأحداث من هنا وهناك، ومن ثم لتكون المدينة نقطة التحول لدى يوسف. يتطلب الإطباق على منطق فيلم «تاكسي البلد» تبني صفات مثل البساطة والكوميديا، ولتكون الصفة الأولى متحالفة مع ما مفاده أن يوسف البسيط لا أحد يفهمه في بيروت إلا الأميركية مدربة الرياضة، بينما يأتي التفاعل مع الكوميديا من باب الماضي حين كان أخطر حدث يمكن أن يقع هو منازلة يخوضها كارلو.
لن يكون في النهاية رهان فيلم «تاكسي البلد» على الدراما، ولا حتى الكوميديا إلا إن كان تعريف الكوميديا يتمثل في تجميع شخصيات بيئية واعتبارها كوميدية في نقلها من موقف مفتعل إلى آخر، بينما تكون في بيروت مختلفة تماماً، حيث الافتعال أكبر، فشخصية يوسف تحمل توصيف الشخصية البسيطة، وهنا البساطة مرادف لرهانات عاجزة عن أن تكون حتى ميلودرامية، وكما يقول انطونيويني «لابد من وجود سبب لكل فيلم»، الأمر الذي يصعب العثور عليه مع «تاكسي البلد».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news