«يامو».. الشخصي معبر نحو التاريخ اللبناني
ما الذي يجعل الشخصي أو ما يوحي بأنه متطرف بشخصنته معبراً نحو التاريخي والجمعي؟ سؤال يطل برأسه بقوة لدى مشاهد فيلم المخرج اللبناني رامي نيحاوي «يامو»، ولعل الإجابة كامنة بداهة في الفيلم، بدءاً من عنوانه وصولاً إلى كل ما فيه، فـ«يامو» هي الأم وفقاً للّهجة الشامية، ونيحاوي يتعقب أمه، يريد لها أن تظهر أمام كاميرته لتتكثف عندها مرحلة تاريخية بأكملها، ويمرر من خلالها أيضاً حياته هو بالذات بوصفه متأثراً بها، وعلى شيء من العدمية التي سيتوصل إليها ربما بسؤاله لها عن سبب إنجابها له.
يوحي الفيلم في قسمه الأول أننا حيال امرأة غامضة إن صح الوصف، والسؤال الذي بدأنا به سيكون حاضراً بقوة، كأن نقول كمشاهدين: «حسناً يا لها من امرأة» ونحن نتعرف إلى نوال المدرسة التي تقود سيارتها المرسيدس المتآكلة وتمضي إلى مدرستها يومياً، بينما أبناؤها مشغولون بعطالة كاملة، أو إن كل من نقع عليه في بيت رامي وأمه يصنعون فيلماً.
يمكن قراءة وجه الأم الذي يوحي مباشرة بأن زمناً صعباً ومزدحماً بالوقائع والمنعطفات قد مر عليه، وهناك أحلام كثيرة تكسّرت على صخرة الواقع الصماء، وأنا أتكلم هنا عن مقاربات متشكلة أثناء متابعة الفيلم، الفيلم المنزلي كما سيبدو بداية، ولا شيء يحدث إلا وقوعنا على رامي ومن معه في البيت غارقين بمشاهدة التلفاز وتدخين أكبر قدر من السجائر.
لكن علي القول إن كل ذلك سيكون تمهيداً لما سيرويه لنا رامي نيحاوي من خلال أمه، ولعل التاريخي والجمعي سيخرج علينا دفعة واحدة دون شهادات متعددة ومتشعبة، فهناك راوٍ واحد لكل ما سنكون شهوداً عليه ألا وهو والدة رامي، إنها السيدة نوال، المرأة التي تعمل صباحاً في المدرسة وليلاً في متجر يبيع السجائر والكحول، لكن مهلاً إنها امرأة لها ماضٍ طويل، إنها امرأة لبنانية مسيحية شيوعية تزوجت من شاب سوري مسلم بعثي، ولعل هذا الزواج الذي ترتب عنه رامي نيحاوي نفسه سيكون معبر الفيلم إلى التاريخي والجمعي، ولنكون أمام توثيق استعادي لليسار اللبناني والسوري، والحركة الوطنية اللبنانية، وربما هجائية شخصية لها عبر وضع السيدة نوال أمام نفسها الهاربة كما سيتاح لنا أن نستنتج من الفيلم، خصوصاً مع خيباتها الحزبية والشخصية، كون زوجها اليساري سرعان ما سيعود إلى التدين، وسيكون زواجه منها على شيء من الخطأ إن كان لنا أن نتابع المتغير في شخصيته، كما سنستنتج من حوارات رامي مع أمه.
صانع الفيلم لن يكون إلا المتأثر الأكبر بما يسرده، وسيكون الفيلم إن صح الوصف بمثابة مفكرة يومية لحياته ومتغيراته أيضاً، ونحن نتابع من خلال تلك المصائر الشخصية مصائر بلد بأكمله اسمه لبنان، تحولت فيه الأفكار الكبرى إلى اقتتال أهلي بينما طُحنت التطلعات التحريرية واليسارية في بوتقة الطائفية التي قضت على كل شيء، ورامي يقول إن شيئاً لم يتغير فمازال زعماء الطوائف الملطخة أيديهم بدماء اللبنانيين من يسيّر البلد ويتحكم فيه.
ما تقدم هي خلاصات سريعة سيقولها الفيلم على طريقته، وعلى شيء من التنقلات لن تكون السيـدة نوال المعـبر إلى كل ذلك، هي التي لا تريد وفي كثير من الأحيان أن تفتح الماضي، الأمر الذي لن تنجح فيه، ولتكون آليات السرد حميمية، إنها قادمة من الأم مع كل ما تحمله هذه الصفة من معانٍ، إنه فيلم خاص جداً يشمل الجميع، أو فيلم لن يكون فيه الشخصي إلا معبراً نحو التاريخي.