مجازات هيرتزوغ والجنون الجماهيري

«حتى الأقزام بدأوا صغاراً».. ثورة حتى العبث

صورة

لا يغدو العبث متعلقاً بحذاء استراجون في مسرحية بيكيت «في انتظار غودو»، وهو يعجز عن انتزاعه من قدمه، بما يجعل من الفعل حالة من انعدام الفعل، لكن وبما يتخطى ذلك إلى تعقبه كفعل جماعي في فيلم الألماني فيرنر هيرتزوغ بعنوان Even Dwarfs Started Small «حتى الأقزام بدأوا صغارا» ،1970 إذ سنقع من البداية على قزمة لا تتمكن من الوصول إلى مقبض الباب لتفتحه وتحضر فردة حذائها الذي نسيته في الداخل، وقد أصبح مشيها بفردة حذاء واحدة شكل من أشكال معاناتها، لا بل إن هذه الشخصية نفسها ستزف إلى قزم آخر ويجري تزويجهما من بعضهما بعضاً بمباركة الأقزام الآخرين، لكن لن يتمكن القزم الذكر من تسلق السرير لموافاة زوجته التي تمكنت من ذلك وسبقته إليه، السرير الذي يبدو كبيراً جداً عليهما، لا بل إن الزوج سيستعين بالصحف والمجلات ويضعها على الأرض فوق بعضها بعضاً ليعلو أكثر، ويتمكن من صعود السرير، لكن عبثاً!، كل المحاولات ستفشل.

سيبدو كل ما تقدم غامضاً لمن لم يشاهد فيلم هيرتزوغ الذي نمضي خلفه هنا، وسيكون الأمر ضرباً من الجنون، كون الفيلم يحكي عن مصحة للأمراض العقلية، جميع من فيه من الأقزام، ونحن نشهد من البداية حركة تمرد ضد مدير المؤسسة، والأقزام متجمعين أمام شرفة رئيس المؤسسة يقفزون شرفته بالحجارة، ومن ثم يهمون بحرق النخلة التي يحبها ذلك الرئيس.

نحن إذن حيال انتفاضة ضد المؤسسة، ويمكن التسلح كل أدوات تفكيك الرمز عند مشاهدة الفيلم وهو يقول الكثير، وهذه المؤسسة لا يمثلها في الفيلم سوى قزم واحد أخذ واحداً من نزلاء المؤسسة الأقزام كرهينة، يمنع من خلالها هجوم بقية الأقزام عليه، مهدداً لهم بأنه سيؤذي الرهينة إن أقدموا على ذلك، دون أن يتمكن من الاستعانة بالشرطة، كون الأقزام المتمردين أقدموا على قطع خطوط الاتصال الخارجي.

في ما تقدم أزمة الفيلم الرئيسة، وما تبقى هو تتبع للعبث، وتتبع لأفعال المنتفضين الفوضوية، وكل ما سنشاهده في الفيلم سيكون عملية تخريب جنونية لكل ما حولهم، فنحن حيال مجانين أعطوا كامل الحرية لفعل أي شيء يرغبون فيه، وبكلمات أخرى أكثر دقة، انتزعوا حريتهم بحركة عصيان جماعية لا لشيء إلا ليمارسوا ما يحلوا لهم من أفعال ستكون جميعها عبثية لا أفق لها، وليس الأمر سوى تكرار للتخريب والعبث، ولا يمكن لعاقل أن يشاهد الفيلم إلا ويقرأ دلالته، مجازه الكبير حقاً.

لن نقع في الفيلم على بحارة يظهر الدود في اللحم الذي يقدم لهم فيتمردون، وليتبع ذلك على البر ثورة شعبية تؤازرهم كما هي الحال مع «البارجة بوتمكين»، فيلم ايزنشتين الشهير، ولا ذلك العامل الذي يقدم على شنق نفسه بعد اتهامه بالسرقة في فيلم ايزنشتين أيضاً المغيب «إضراب»، فنحن في فيلم هيرتزوغ لن نقع على محرضات حركة التمرد التي أفضت إليه، والأمر أقرب إلى عصيان اتفق عليه الأقزام الذين سيبقون صغاراً في إحالة إلى عنوان الفيلم، فإن كان حتى الأقزام يبدأون صغاراً، فما بالك بالبشر كاملي النمو الذين عليهم ولا جدل في ذلك أن يبدأوا صغاراً ومن ثم يكبروا، وهذا تقويل للعنوان، وبالانتقال إلى ما نشاهده في الفيلم، فإن كل ما فيه متمركز حول عبثية الفعل التمردي الذي لا أفق له، غير الخاضع لنواظم وحوامل فكرية، إنه عما يمكن أن نقول عنه: التمرد لمجرد التمرد، والكارثية التي يمكن أن تحيط بهذا الفعل، دون أن ننسى أن هؤلاء الأقزام ليسوا إلا مجانين أيضاً، وهنا الجنون متفوق على كونهم أقزاماً، ولعل التقزيم إن كان مجازاً عن عبثية الفعل وتشوهه، فإنه يحكم بصفاته هذه قبضته على ما يمكن أن يصاب به هؤلاء الأقزام حين ينتزعون حريتهم التي لا يعرفون ما الذي عليهم فعله بها، لا بل إنهم سيمارسون كل شيء دفعة واحدة، وفي زمن الفيلم الذي هو زمن واقعي تجري أحداثه خلال يوم واحد لا تتجاوز الساعة ونصف الساعة في الفيلم، وهم لا يقومون إلا بتسجية الوقت على طريقتهم الخاصة لحين قدوم الشرطة.

لكن كيف قدم هيرتزوغ ذلك، وهنا عليّ أن أسرد الكثير من اللقطات والمشاهد في الفيلم بما يضيء كل ما تقدم، وعلى شيء من تتبع المفردات البصرية التي تتبعثر في الفيلم ولا يجمعها إلا احالتها إلى مقولات معرفية وتاريخية ونفسية، فالأقزام الذين هم كل شخصيات الفيلم يمنحون هذا الفيلم إحالته إلى مستويات متعددة، وهناك أيضاً الدجاج، حيث نقع في البداية على دجاجة تنقر دجاجة ميتة، وقصة الدجاج ستمضي إلى جانب ما يفعله الأقزام على شيء من العودة في الزمن لنعرف لمَ دجاجة تنقر دجاجة ميتة، إذ إننا سنقع في سياق الفيلم على الدجاج يتصارع على فأر ميت يتدلى من منقار دجاجة من الدجاجات، ومن ثم سنقع على تلك التي كانت تحمل الفأر قد ماتت من جراء التهامه له، وهي من ستكون تحت رحمة منقار دجاجة أخرى، فقد اختل النظام الغذائي لهذه الكائنات، كون نزلاء المصح توقفوا عن تقديم الأكل لها.

بعيداً عن الدجاج، فإننا سنقع على مسعى الأقزام تشغيل سيارة المؤسسة، وحين ينجح أحدهم بذلك، فإن السيارة لن تتمكن من الخروج من المصح، بل ستبقى تدور وتدور في حلقة مفرغة، لا بل إن السائق سيهجرها، ويصعد إلى سطحها، ومع ذلك ستبقى على دورانها، سنقع على دراجة كبيرة يقودها قزم، سيهاجمون قزمين ضريرين يضربان كل بعصاة الهواء.

ستتحول السيارة وهي تدور إلى لازمة الفيلم، وحين يقرروا أن يأكلوا فإن المائدة ستتحول إلى حفلة جنون، وسيتراشقون بالأطعمة، وهناك ستكون الأفعال الجنونية قد بدأت تتصاعد، ولعل ذلك سيبدأ من المائدة، حيث سيصل التشكيل البصري للفوضى ذروته، إذ مع تناثر الأطعمة ورمي الصحون على السيارة التي مازالت تدور حول نفسها سيحرقون أصص الزهور، ومن ثم سيقيمون صراعاً للديكة، وسيوضع قرد على الصليب الذي سيتقدم مسيرة للأقزام، وكل ذلك والسيارة تدور حول نفسها إلى أن يرموا بها في حفرة عميقة.

كل ما تقدم يضيء بقوة ما يريد هرتزوغ تمريره من خلال ما تقدم، ولإيضاح ذلك فإن في الفيلم ما يرتبط بـ«سيكولوجيا الجماهير» في إحالة إلى المفكر الفرنسي غوستاف لوبون، ومعه أيضاً الفوضوية الثورية، التوصيف الذي يحضر حين يخلو الفعل الثوري من الأطر والنظم التي تؤدي إلى حصد نتائج التمرد الذي لا يمكن له أن يتحول إلى ثورة إن خلى من تلك الأطر، أو كما يقول لوبون «إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة ومجرمة، بطولية أو جبانة، وذلك بحسب نوع المحرضات، لكنها ستكون دائماً قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها، بمعنى أنها مستعدة للموت من أجلها».

ولنخلص في الفيلم أن محرضات ما يقدم عليـه الأقزام غائمـة لا تتعدى التمرد لمجرد التمرد، ورفض النظام الذي فرض عليها، بعيدا عن تقديم الفيلم أي ملمح من ملامح الظلم الذي تعرض له الأقزام، إنهم ثائرون ولم يبدأوا صغاراً ليكبروا، فما بالك بمن هم أقزام!

تويتر