جمهور كبير تابع عرض اليوم الرابع من «مسرح الشباب»

«الطين».. دراما شبابية تبحث في الهوية

صورة

أنت مدعو لقضاء سهرة تتضمن عرض مسرحية شبابية، ليست مجرد دعوة للتغلب على إحباط شباب يبحثون عن جمهور لعرض أعمالهم، بدليل هذا الإمتاع والتفاعل الجماهيري الذي شهده عرض مسرحية «الطين» للمسرح الحديث بالشارقة، ضمن فعاليات رابع أيام مهرجان دبي لمسرح الشباب في دورته السادسة التي شهدت حضوراً كثيفاً لجمهور اختار قضاء سهرة نهاية الأسبوع مساء أول من أمس مع الإبداع الشاب.

«صمت مدروس»

وصف المسرحي يحيى الحاج الذي برر تكرار إدارته للندوة بحالة وفاة استدعت اعتذار الفنان عبدالله صالح عن إدارتها، وجود بعض اللحظات من الصمت على المسرح بـ«الصمت المدروس»، مضيفاً: «الصمت المسرحي الموظف توظيفاً جيداً عادة ما يكون أوفى دلالة من الحوار، وهذا ما حدث في أكثر من مناسبة خلال عرض (الطين)». وشدد الحاج على وجوب عدم التعامل مع أطروحات العمل على أنها أطروحات مكررة، مضيفاً :«الطين مادة أساسية في كليات الفنون الجميلة، وهي حاضرة في التشكيل الفني والنحت، والمسرح يستعين بها للتعبير عن قضايا متعددة، ولا ننس أن الطين كما أنه أصل الحياة، هو مآلنا أيضاً بعد الممات، لذلك

فمشروعية الاستعانة به تبقى متجددة ومتاحة للجميع بشرط تقديم رؤية فكرية وإخراجية غير مبتسرة».


خط أفقي

الفنان حافظ أمان الذي اشتاق إليه المسرح كثيراً حرص على حضور عرض «الطين»، وأبدى إعجابه الشديد بالعمل، لكنه تساءل عن سر إصرار المخرج على سير الشخصيات بشكل أفقي، دون أن يرافق ذلك تطورها بإيقاع رأسي، ما يعني الحرص على تقديم رؤى متعمقة تغوص في أعماق الشخصيات، دون الالتفات لتفاعلها مع الأحداث. وأضاف أمان: «لم تصل تماماً رؤية المخرج بوضوح عن مدى إمكانية اندماج ثقافتين، أو (طينين) وفق لغة العمل، فهل يعني هذا التصور استحالة اندماج أصلين مختلفين؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو التصور الذي يقدمه بهذا الصدد؟ في المقابل رأى أمان أن الممثلين وفقوا كثيراً في التعامل مع نص محمد صالح، مضيفاً: «الممثلون أكسبوا العمل شحنات عاطفية من المؤكد أنها لم تكن موجودة في النص، وتمكنوا من تجاوز خلو العمل من مثيرات الصراع، وهو أمر يحسب لهما». ورأى أمان أن المخرج ناقد نفسه في الإشارة في الكتيب التعريفي للعمل إلى أنه يقفز على الجغرافيا عنواناً للهوية، في حين أن العمل يرسخها أساساً لها، وليس الأفكار، حيث حملت الكلمة عبارة (إن الحياة من حولنا هي من صنعأفكارنا، فلا يهم اين أنتم الآن، لكن المهم هو إلى أين تتجهون)، وإن جاءت مفردة (لكن) بخطأ لغوي في الكتابة أضاف إليها حرف الألف بعد الكاف.


آثار ما بعد العرض

لم يستطع ممثلا «الطين» إخفاء كامل آثار دوريهما عقب العرض في الندوة التطبيقية، وبدا فيصل علي الذي تولى مهام متعددة تحتاج لفريق متكامل منهكاً، وتأثر جفناه كثيراً بآثار التراب الذي تطلب العمل إثارته باستمرار على الخشبة وبالقرب منه، وكان من المدهش أن يكون المخرج هو نفسه الممثل الرئيسي، وهو نفسه صانع السينوغرافيا التي تعني الديكور والإضاءة، ما يعني أن العمل بقدر ما اظهر تنوع قدرات فيصل علي، حجب طاقات كان من الممكن أن يقدمها المسرح الحديث على خشبة دبي للشباب ممثلة في فنيي الإضاءة والديكور، فضلاً عن ممثل رئيسي لا يقتنص دوره المخرج. ولقي «الطين» إشادة واسعة من الحضور الأجنبي الذي صفق طويلاً له، بعدما تواصل معه مباشرة عبر الترجمة الفورية، فيما عبر المخرج الانجليزي ريتشارد هيل عن إعجابه الشديد بالعرض الذي حظي ايضاً بمتابعة إيزابيل بالهول مديرة مهرجان طيران الإمارات للآدداب، التي استفاضت كثيراً في بيان استمتاعها بأداء الشخصيات، وثراء المشهد، وقدرة المخرج على إحداث حالة من التلاحم بين الممثلين فوق الخشبة والجمهور أمامها.


سيمفونية بصرية

وصف المخرج العراقي محمود أبوالعباس «الطين» بالسيمفونية البصرية المصنوعة من الفخاريات، مضيفاً : «حمل العرض الكثير من الجرأة المحمودة، وتمكن من الخروج والابتعاد عن محتوى درامي مشابه لأساطير معروفة تستلهم هذا الصراع»، لكنه اعتبر أن الموسيقى القادمة من أقصى المسرح أفسدت حالة الإيقاع الروحي القوي الذي نسجته الشخصيتان الرئيستان. ورأى أبوالعباس أن المخرج لم يوفق في إدخال اللونين الأزرق والأحمر في العرض الذي كان بحاجة إلى مزيد من التجانس مع أجواء العتمة والإظلام والسواد، وفق الجو النفسي لتطور الفعل المسرحي، لكنه انتقد في الوقت نفسه الملابس السوداء للمجاميع البشرية التي شبهها بأزياء «محاكم تفتيش العصور الوسطى»، معتبراً أن ارتداءها ملابس مشابهة لتلك التي كان يرتديها الأب هو القرب لمنطق الدراما المسرحية.

العرض الذي كتب نصه محمد صالح وإخراج وسينوغرافيا فيصل علي، لعب دور البطولة الرئيسة فيه المخرج أيضاً مشاركة مع الممثلة الشابة ريم الفيصل، ما يعني أن هناك إشكالية نظرية مفترضة ممثلة في غياب العين الأخرى المراقبة للعمل، في ظل انغماس المخرج الممثل في دوره، وهو ما فسره الأخير بفشله في العثور على ممثل مناسب بعد اعتذار أربعة منهم بشكل متوالٍ، حتى قبل موعد العرض على لجنة مشاهدة واختيار الأعمال المشاركة في المهرجان، ما يعني أننا هنا أمام طاقة إخراجية كان بالإمكان أن تذهب أبعد من هذا العرض الذي صفق له الحضور وقوفاً تقديراً له.

الانفتاح على عالم من المنتجات الفخارية التقليدية وآلة قديمة لصناعة الفخار، وغبار يملأ المكان إثر استخدام مكونات الفخار، فضلاً عن الإضاءة الموحية أحالت المشاهد مباشرة إلى طقوس جعلته ينسى كل ملامح الحداثة التي طالعها منذ خروجه من بيته أو عمله قاصداً مسرح دبي الاجتماعي في «مول الإمارات»، ما يستدعي مروره بشارع الشيخ زايد، المزدهر بشواهد نهضة عمرانية تعد مثالاً حياً لحضارة القرن الجديد، ما يعني أن لحظة إزاحة الستار هي لحظة إبحار في مساحة مكانية وزمانية جديدة.

حوار داخلي

المونولوج أو الحوار الداخلي يستعين به المخرج كمقدمة للخوض في عمق الشخصيتين الرئيستين، ما بين أب لايزال مشغولا بصناعة الفخار التقليدية، لكنه يبدو مشغولاً بشكل أكبر بصب جام غضبه على لحظة اقترانه بامرأة أجنبية، رغم أن هذا الزواج أسفر عن ابنة أضحت فتاة ناضجة، في حين تكشف التقنية نفسها حنق الفتاة على أبيها، وحسرتها على تكبيله لها بقيود لا تجعلها تشعر بأنوثتها وحريتها كما تراها.

المزاوجة بين هذا الحوار المسموع والمؤثرات الصوتية والموسيقى كانت مثالية وأسهمت في مزيد من الالتحام مع الأحداث بالنسبة للمتلقي، لاسيما أن المخرج فطن إلى ضرورة الكيل بمكيالين فنياً بين نمط تلك المؤثرات وسرعتها في كل من حديث الأب والفتاة، على نحو يؤكد أن الأمر هنا مرتبط بتصورات مختلفة في المجمل قد تظل متوازية وغير متلاقية بناء على اختلاف سرعة الإيقاع.

الاستعانة بمجاميع في أقصى الخشبة تقوم بالضرب على المنتجات الفخارية بدلاً من الدفوف أيضاً كانت شديدة الدلالة، لاسيما أن تلك المجاميع جعلها المخرج متحركة وغير ثابتة، ولم تأت حركتها رتيبة، وإن بدت ملابسها السوداء تقليدية ومتكررة، لكنها أسهمت بإيحاءاتها المقصودة في بلورة الفعل المسرحي الذي رافقته.

أب مسن يرى أن جريرته العظمى هي الزواج بامرأة يقول عنها «هي غريبة عنا، لا ترمس رمستنا ولا نرمس رمستها، لا تشبهنا ولا نشبهها»، ويمتد هذا الحنق إلى علاقته بابنته التي يراها وريثة لتلك الأم، وعلى نهجها، محاولاً إثناءها عن بيع البيت الذي ورثه عن أجداده وآبائه للغرباء الذين يسعون للسيطرة على كل شيء، في حين أن الفتاة لا تهتم سوى بتلك الحياة التي تفتقدها، وتفتقر فيها إلى المباهاة بجمالها، وشغلها لطالبي ودها من الشباب.

ويحسب للمخرج أنه نجح في أن يجعل المشهد الختامي للعمل هو المشهد المبلور لرسالته، فالأب المهموم يكشف جرة مليئة بالأموال الفضية صاغها من الفخار الطيني بكل ما يحمله الارتباط بالطين من دلالة تتعلق بطبيعة المكون البشري، لكنه يضطر لكسرها من أجل الكشف عن تلك الأموال لابنته حتى لا تضطر إلى بيع البيت، لكنها هنا تظل مسكونة بتطلعات وآمال وطموحات الحياة، في حين ان الأب البائس يغادر الحياة في هدوء، محنطاً على كرسيه وآلته التي يصنع عليها المواد الفخارية.

أخطاء ملحوظة

الموسيقى التصويرية رافقت تطور الحدث، وكذلك الإضاءة، لكن المخرج وقع في الكثير من الأخطاء الملحوظة، بعضها ما كان ليقع فيه لولا إشكالات في البناء الدرامي لشخصية الفتاة نفسها التي انقلبت على نحو نفى عن هذا التطور المعقولية من فتاة كل مشكلتها في ذلك الأب الذي يحرمها ملذات ومتع الحياة بالنسبة إلى ابنة تبكي أبيها بحرقة إلى حد إصابتها بما يشبه اللوثة العقلية بعد وفاته، في حين كان الخطأ الفني الأكثر بروزاً للمشاهد هو أن الأب المحنط تحرك جسده فعلياً نظراً لاستحالة بقائه على هيئته أعلى مقعده، والحاجة الفنية لأن يسدل جسمه على الخشبة في نهاية العمل.

بقيت الإشارة إلى أن العمل لم يستطع رغم ذلك التخلي عن آفة استسهال النهايات المتكررة في المسرح الإماراتي، والتي لا تبتعد كثيراً عن أحد عيوب الدراما العربية عموماً، وليس المسرح فقط، وهو إما المبالغة في مكافأة أبطاله بنهايات سعيدة، أو المبالغة في عقابهم، وإن مال المسرح الإماراتي إلى الحل الأخير الذي يجعلهم ما بين محكوم عليهم بالموت كما هو الحال في العرض السابق لمسرحية «الطين»، وهو مسرحية «فبركة» لمسرح دبي الشعبي الذي حمل المشهد الأخير له موت جميع أبطاله، أو مسرحية «الطين» للمسرح الحديث بالشارقة الذي جاء المشهد الأخير بموت الأب، وإصابة ابنته بلوثة عقلية غير مبررة، لتصبح الخشبة ذاتها هي الأكثر بقاء من المتحركين حولها، رغم ذلك فإن رؤية المخرج لم تجب للمشاهد عن أسئلة بنى عليها العمل، ولم نصل بالضرورة إلى رؤيته التي أوحى لنا بطرحها حول ثنائية الموت والحياة المنبعثة من «الطين»، وعلاقة تلك الثنائية بالهوية من وجهة نظر الكاتب، ولم يقدم لنا رؤية واضحة في الحلول في حال الإيغال في تصور أن الهوية نقاء عرقي، وليس موروثاً ثقافياً، لا سيما أن كل جريمة الفتاة بالنسبة لأبيها هي انها ابنة زوجته الأجنبية، وأنها لن تتمكن من الحفاظ على الأرض التي تشكل هنا معادلاً موضوعياً لمفهومه عن «الهوية»، لكن في المقابل يمكن قراءة العمل بأن مخاوف الأب رغم ذلك في أن تتبدد هوية الأجداد والآباء ببيع البيت لم تتحقق، وأن البيت ظل في النهاية قائماً وأن اللحظة الأخيرة التي عاشتها الفتاة على المسرح قابلة للتجاوز لأنها مجرد «لوثة» عابرة .

تويتر