في ظل أفلام الإنسان والكرامة

«اللون القرمزي».. للحرية لون واحد

سيلي والمعاناة مستمرة. من المصدر

السينما هي الإنسان، وهذا ما لمسناه في محفلين أقيما أخيراً، الأول في مهرجان دبي السينمائي في دورته التاسعة، عندما سحبت إدارته مشاركة أفلام سورية لمخرجين لأن المهرجان «لا يستطيع الفصل بين الأداء الفني والمواقف الحياتية» لهؤلاد المخرجين والمحفل الثاني في «الغولدن غلوب» التي رشحت ومنحت جوائزها الى أفلام انحازت للعدالة والانسانية، مثل فيلم «لينكولين»، و«تحرير جانجو»، و«البؤساء» و«حياة باي»، وغيرها»، وهي العناوين نفسها المرشحة لنيل جوائز «الاوسكار»، الشهر المقبل. إضافة إلى خبر صغير يمر عبر الشريط الاخباري مرور الكرام على شاشات التلفاز يقدم ردة فعل والدة الفتاة الهندية التي فجرت موجة غضب عارمة في الشارع الهندي، بعد ان تعرضت للاغتصاب على يد مجموعة من الشبان وعادت الى بيتها جثة هامدة، صرحت الأم فيه، لأول مرة، بعد صمت كاد ان يقتلها حزناً: «كانت جثتها مسالمة وآمنة، مثل لحظة وضع رأسها على صدري يوم ولادتها». يعيدنا هذا التصريح إلى أفلام تناولت حالة الاغتصاب كحالة إنسانية يجب العمل على وقفها والتصدي لها، خصوصاً أننا نسمع في كل يوم تقريبا عن حالات مماثلة كنتيجة مجتمعية أو سياسية مثل التي تحدث في الحروب، ولا شك في أن السينما الأميركية كانت أجرأ في طرح هذه الموضوعات، فكان لفيلم ستيفن سبيلبيرغ «اللون القرمزي» الذي انتج عام ‬1985 حضوره في هذا الحدث، فالمخرج يحكي هذه القصص التي تمس الانسان سينمائياً كفيلمه الجديد «لينكولين» الفائز بجائزة افضل ممثل ذهبت لصالح «دانييل داي لوس» في «الغولدن غلوب» والمرشح لخمس جوائز أوسكار، ويحكي معركة الرئيس الأميركي الـ‬16 في تحرير العبودية دستورياً.

لمشاهدة تفاصيل أوفر عن الموضوع يرجي الضغط هذا الرابط.

بطولة نسائية

نعود إلى فيلم اللون القرمزي الذي نال فيه سبيلبيرغ جائزة الأوسكار كأفضل مخرج عام ‬1986، والذي اقتبس احداثه من رواية حملت العنوان نفسه للكاتبة «آليس وولكر» المناهضة دوماً للمواقف العنصرية، وعلى رأسها «اسرائيل»، وأدى دور البطولة فيه «ديسرت جاكسون، اوكوشيا بوسيا، هوبي جولدبيرج واوبرا وينفري»، فلا يمكن ومنذ المشهد الأول  يشعر المشاهد برغبة في البكاء، وكيف لا وهو يشاهد حكاية«سيلي» الفتاة التي تتعرض للاغتصاب على يد زوج والدتها بشكل دائم، وتنجب منه طفلين لم يسمح لها بمشاهدتهما. البطولة في هذا الفيلم نسائية، وهي حالة مقصودة، فنحن أمام حالة السود في القرن ‬19 ومحاولتهم الاندماج مع المجتمع الأبيض، لكنهم يتعرضون للذل والهوان من ذويهم ومن قبل البيض، خصوصاً النساء منهم، الذين لم ينفكوا معاملتهم عبيداً من كلا الطرفين. في الفيلم محاور كثيرة اجتماعية وسياسية وحقوقية، تتمثل في أربع شخصيات رئيسة، «سيلي» الفتاة المعذبة لا صوت لها ولا قرار، المغتصبة من قبل زوج والدتها المريضة والتي حملت بطفلين نتيجة هذا الاغتصاب، وهي لم تتجاوز الـ‬15 عاماً من عمرها، لتنتهي في بيت رجل أرمل لديه اطفال جاء بها خادمةً أكثر منها زوجةً، «نيتي» شقيقة «سيلي»، والقريبة الى قلبها وروحها، تظهر شخصيتها وقت قرارها الهروب من منزل زوج والدتها، بعد ان حاول تكرار ما فعله مع «سيلي»، فتهرب الى بيتها لتلقى المصير نفسه من قبل زوج شقيقتها، فيقرر التفريق بينهما بمشهد مؤثر للغاية، ووعد من قبل «نيتي» بإرسال الرسائل لـ«سيلي» طوال عمرها. وتدخل في الأحداث مُغنية الملاهي الليلية «شوج افاري»، ابنة أحد كُهان الكنيسة وعشيقة السيَّد آلبرت زوج «سيلي»، إضافة إلى صوفيا زوجة ابن السيد آلبرت، التي تمثل في الفيلم رمز التحدي والصلابة والتوق الى التحرر.

الحكاية

المشاهد الأولى من الفيلم تسلط الضوء على اختين مراهقتين «سيلي ونيتي»، وأمهما المريضة المتزوجة بآخر بعد وفاة والد ابنتيها، هذا المرض الذي اقعد الأم خلق تبريراً في قلب الزوج كي يغتصب ابنتها الكبرى «سيلي» تعويضاً عن عدم تلبية الزوجة متطلبات زوجها، مشاهد مؤلمة وانت ترى رجلاً كبيراً في السن ينتهك جسد طفلة صغيرة مازالت تربط شعرها كجديلتين، في عيونها رضوخ وانتهاء مرحلة طفولة كانت تنظرها بين الحقول، هذا الاغتصاب المتكرر يجعل سيلي أماً مرتين دون أن تشم رائحة أبنائها الذين يقرر زوج الأم بيعهما كي لا يفتضح أمره. في هذه الاثناء لا تصب «سيلي» همها الا على كيفية حماية شقيقتها «نيتي». من أنياب زوج زالتهما، تمر الأحداث المملوءة بالقهر والألم، الى أن يطرق بابهم السيد «البرت» الذي فقد زوجته، أخيراً، ويريد الزواج بالصغرى، لكن زوج الأم يرفض ويعرض عليه «سيلي»، فهي في نظره اصبحت بلا فائدة، قائلاً له: «خُذ سيلي، إنها ليستْ بكراً، لقد أنجبت طفلين، لكنها لن تستطيع الإنجاب الآن، وهذا سيُريحك من عناء طفل آخر»، بهذه الجملة قرر هذا الجشع أن يبيعها، لا بل ويحرمها ايضا من شعور الأمومة طوال حياتها، ونال من كرامتها فعاشت ذليلة بزوج السيد «ألبرت» كخادمة له ولأولاده تتلقى الضرب والاهانة، كل لحظة، دون أن ترفع رأسها.

تمضي الأيام وتهرب أختها «نيتي» إليها، بعد أن حاول زوج والدتها اغتصابها هي ايضاً، يوافق السيد آلبرت على بقائها في البيت، لأنه يريد أن يغتصبها هو الآخر، في هذه الاثناء تعيش سيلي أجمل لحظاتها مع شقيقتها التي تعلمها الكتابة والقراءة، وينغص هذه السعادة محاولة السيد «البرت» اغتصاب «نيتي»، فترفض ويقرر التفريق بين الشقيقتين في مشهد مؤلم جداً يكون اتفاقهما الأخير أنْ يتواصلا عبر الرسائل البريدية التي لم تصل لمدة ‬40 عاماً كاملة، لأن السيد «البرت» كان يخبئها.

المنحى الإنساني

في هذه الـ‬40 عاماً، ومع كل الانتهاكات التي تتعرض لها كرامة «سيلي» والتي لم تتوقف في جلب السيد «البرت» عشيقته إلى المنزل كي تخدمها، تتحول العلاقة بين العشيقة و «سيلي» الى صداقة عميقة ، بل تشجعها على استجماع كل قوتها كي تنتصر الى كرامتها المهدورة طوال هذه السنوات، خصوصاً بعد ان وجدت رسائل شقيقتها المخبأة تحت أرضية غرفته، تستشيط غضباً، حتى انها ترفع السكين في وجهه، لولا تهدئة العشيقة وصوفيا لها بأنها ستدخل السجن لأجل رجل لا يساوي شيئاً. تقرر الرحيل فيصرح بها بكل عبارات الاهانة «يا سوداء ن يا قبيحة يا خادمة..»، لكنها تصر على المضي فروحها تحررت أخيراً مع أنها لم تسمع كلمة «شكراً» في حياتها.

نهاية روحانية

تدخل القدرة الإلهية في المشهدين الاخيرين من الفيلم، الاقتراب من الروحانيات هو مخرج «سيلي»، اخيراً، تمشي بين الحقول شمسيتها فوق راسها بخطوات غير متعثرة رأسها مرفوع الى السماء، تلفحها الشمس حيناً وتغطي السنابل جزءاً من جسدها حيناً، وكأن الطبيعة هي التي قررت حمايتها من كل مكروه، ليلحقه المشهد الأخير الذي تظهر فيه شقيقتها «نيتي» تقدم لها مفاجأة أنها عثرت على ابنتها وابنتها وربتهما حتى أن ابنها متزوج، لكنهم لا يتحدثون الانجليزية، بل لغتهم الافريقية، مشهدان تلتقي فيه كل الأرواح، تماماً مثل ألم المخاض الذي ينسى بمجرد حضن الأم لوليدها الذي خرج الى النور للتو، فبالنهاية كما قال مارتن لوثر كينغ محرر العبيد: «لا يستطيع أحد ركوب ظهرك، إلا إذا انحنيت».

تويتر