«وحوش البرية الجنوبية».. العالم في عيون طفلة
شيئان من الممكن الإفاضة بالحديث عنهما في الفيلم الخيالي «وحوش البرية الجنوبية» (بيستس أو ذي ساذرن وايلد) الذي يعرض حالياً في دور سينما محلية، الشيء الأول هو الكاميرا المهتزة في لقطات كثيرة اعتمدها مخرج الفيلم، بينيه زيتلن، في تجربته الأولى لصناعة فيلم طويل، والشيء الثاني هو أداء بطلة الفيلم الطفلة ذات الأعوام الستة، كفنزهان واليس، التي لعبت دور هاش بوبي، التي تجسد فكرة النجاة مهما كانت الحياة قاسية في ظل بيئة بحرية، فصلت نفسها كلياً عن أي شيء له علاقة باليابسة. طفلة لم تغب عنها الكاميرا لحظة، فهي البطلة والحكاية والبداية والنهاية، هي رسالة واضحة إلى كل من يحاول المساس بأمنها بأن «كفوا تدخلاتكم عني، فأنا قادرة على النجاة وحدي»
العالم كله مهتز
لمشاهدة المزيد من المواضيع عن الفن السابع، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
قبل الحديث عن الفيلم الخيالي الذي من الممكن تصنيفه فيلماً موجهاً للنخبة، لأن تفاصيله قد لا يستسيغها رواد السينما التجارية، فهو صنع كي يعرض في مهرجانات ومحافل تعنى بالشأن السينمائي، أكثر منه التفكير في عائد مادي، خصوصا أن كلفته الانتاجية لم تصل الى المليوني دولار أميركي، وبالرغم من ذلك حصد العديد من الجوائز ورشح لكبرى الجوائز العالمية، فالتكلفة اذاً لا علاقة لها بشكل صناعة ونجاح الفيلم، كما يتخيل الكثيرون، والعنصر المرئي في الفيلم يجعل المشاهد يشعر كأنه أمام فيلم وثائقي لا يهتم للشكل البصري بقدر اهتمامه بالوقع الذي يذهب مع المشاهد فور مغادرته قاعة السينما، هذا الوقع كان مع كاميرا مهتزة في كثير من المشاهد، وكأن المخرج يريد إضافة هذا الاهتزاز إلى حكاية تتلخص بتحدي الكارثة والنجاة، والرغبة في الحياة، بالرغم من كل الموت الذي قد يحيط بالمكان، هي دلالة لاهتزاز العالم كله إذا ما واجه كارثة، ولم تعد مقتصرة باهتزاز كاميرا كان لها شأن كبير في إيضاح الرسالة.
بطلة في جسد طفلة
هاش بوبي هي البطلة ذات الست سنوات، لديها ابتسامة ساحرة قد تخرج عالماً خيالياً يدور في رأسها المملوء بالحكايات، وفي الوقت نفسه لديها نظرة غضب وتجهم قادرة على أن تقف أمام أي نوع من الوحوش التي عرفت عنهم من خلال معلمتها أنه «في يوم قديم من أيام أهل الكهف كانت هنالك نوع من الثيران البرية تأكل الأطفال دون مقاومة من ذويهم، ومن لا يقاوم الوحوش من أجل الأبناء يجب نعته بالجبان»، وبعد هذه الحكاية قررت هاش بوبي أن تكون قوية.
هاش بوبي تعطي إيحاء بأنها ليست طفلة عادية، بل من الممكن أن تكون خيالية، لكن تفاصيل قصة الفيلم تريد أن تعطي دافعاً له علاقة بالجسم الصغير الضئيل، انه ليس بالضرورة أن يكون ضعيفاً، هي أمام الكاميرا طوال مدة الفليم (ساعة و30 دقيقة) لا تبارح العدسة، لها سحر ببناء علاقة ود سريعة مع المشاهدين، يتفاعلون معها ويحبون لمعة عيونها.
مزيج مجتمعي
بوبي تمثل المزيج الأميركي المعتز بفرديته مع الشعور بالانتماء للكل أو للجماعة، بمعنى أنها وريثة تلك التقاليد التي تمثل خط مسيرها، ونتاجاً لكل الظروف التي تتعرض لها تلك الأسس في مسارات طويلة ملتوية فيها فرح وحزن في اللحظة نفسها، تريد من خلال دورها أن تؤكد بطولة الأطفال الكامنة في عقولهم المملوءة بالخيالات، وأن طريق التحرر لا يقف أمامه العمر، خصوصاً حينما تسقط المثل العليا التي تهدد المستقبل.
هي بعينيها الواسعتين قادرة على استيعاب كل مشاهد الأحاسيس الرقيقة، إضافة إلى المشاهد الكارثية التي قد تهدد وجودها، تأملاتها المصاحبة للموسيقى التصويرية لدان رومر تجعل من المشهد أكثر قرباً، تلمس فيه وجدان المتلقي لا محالة، وبناء على ما سبق فهي تمثل الكون بذاته في جسدها الصغير وعقلها. لقد قالت وهي واثقة في المشهد الأخير من الفيلم «إن العلماء سيتعرفون اليها خلال 1000 سنة في المستقبل، وسيتعرفون الى والدها الذي كان يدعوها (بالرجل)، وكذلك الى المستنقع المائي الكبير الذي يمتد من «لويزيانا»، حيث كانوا يعيشون، وكانت بوبي تعلم تماماً كم هي عظيمة وكم هي قوية.
شهود على المغامرة
مشاعر متضاربة، لكنها تنصب جميعها تجاه دعم هذه الطفلة ذات الشعر الخشن المتروك للطبيعة، هي وطوال الفيلم تسري على خطى ما علمه إياها والدها المريض الذي تفقده في النهاية، بعد فقدانها لوالدتها، فمن جهة ، فإنها صغيرة الحجم وسريعة التأثر، وبالتالي فإن الكون قد لا يبالي كثيراً بها كما يجب. هي ووالدها باث توب الذي أدى دوره الممثل دوايت هنري يعيشان في منزل من الصفيح، ما يدل على فقر الحال في منطقة مستنقعات تملؤها الخردة والحيوانات الغريبة، والتي يفصلها سد كبير عن عالم الصناعة أو كما يطلق عليه «اليابسة التي لا تعرف ما معنى البحر»، سكان هذه المستنقعة المائية البعيدة كل البعد عن الحياة العصرية يقضون أيامهم بصيد السمك وشرب الكحول وتربية أولادهم على الاكتفاء الذاتي، والايمان بدين الجماعة المتمثل بمخلوقات عملاقة قديمة تسمى «أوروكس»، هي العدو الكبير لهم، فهي قادرة على أكلهم اذا لم يتحصنوا بالقوة الجسمانية، والطفلة تربت على كل هذا، حتى أنها لا تجرؤ على البكاء اذا ما تعرضت لخدش بسيط كي لا يطلق عليها لقب (الجبانة).
الكارثة وتحدّي التدخل
الشعور بالكارثة في قلب الطفلة هاش بوبي لا يبدأ مع ارتفاع منسوب المياه في منطقتها، فهي تعلمت أنه في يوم من الأيام سيبتلع البحر بيوت المنطقة ويبتلعهم أيضاً، بل بدأت مع مرض أبيها، الذي شعرت فيه برغم محاولات هذا الأب القاسي بطبعه أن يخفيه، لكنها تقف أمامه وتقول «أتظنني لا أفهم؟ أتظنني لا أرى؟ هل ستموت؟ ففي موتك موتي أيضاً»، لتكن إجابة الأب واضحة أنه هذه ليست حقيقة «أنت ستعيشين، لكن احذري من سكان اليابسة وكوني قوية»، لتأتي كارثة «لويزيانا» التي يصور الفيلم فيها المسؤولين على أنهم استغلوا هذه الكارثة كي يقيموا مشروعاتهم المؤجلة بسبب تمسك السكان بطبيعة الحياة هناك، على الرغم من مجيء بعثة منهم يقدمون العلاج للأب المريض ويمنحون هاش بوبي، وأقرانها في العمر «لباساً نظيفاً وجديدا ، هم يريدون اخلاء المنطقة من خلال انذارات تصدر من طائرات تحلق فوق رؤوسهم، مع تعنت واصرار واضح من قبل السكان بالبقاء، في تلك الاثناء كان والد بوبي يقاوم المرض ليس خوفاً من الموت، بل لحاجة إلى وقت إضافي يكفي لإعداد ابنته لمواجهة مستقبل غامض.
الحقيقة
المشاهد الذي يريد ربط علاقة مع الفيلم، قد يرى القصة وتفاصيل المشاهد من جانبين ينصبان في طريق واحد تحت شعار «الحرية والكرامة وعدم التدخل»، عبارات اصبحت حاضرة في مجتمعات عربية، كأن الكوارث والأزمات توحد الانسان مهما كانت جنسيته أو دينه أو جنسه، فمن جانب قد تأسر حالة المجتمع المتعدد الثقافات المترابط واللا مبالي لتحقيق ثورة، ومع ذلك هو قادر على صنع الفرح، ومن جانب آخر، هناك الأخلاق والمبادئ المبنية على اسس الحرية لمجموعة من الناس يعيشون بفقر شديد، لكنهم يتمسكون بتقاليدهم ويتباهون بتحدي ما يسمى «النوايا الحسنة» المتمثلة «بحكومتهم الأميركية»، التي تعيش باليابسة بين العمارات الشاهقة التي تبتعد عن الأرض أساس الحياة اذا ما أرادت التدخل في شؤونهم وتغيير حياتهم .