«ناس الغيوان».. الموسيقى شاهــدة عيان
تأثير الأم والثقافة وتحدي الظلم والخروج من القاع الى كسر جدار الصمت، كل ذلك وأكثر موجود في الفيلم الوثائقي «ظاهرة ناس الغيوان»، الذي أخرجه عمر كاملي بن حمو، وعرض أخيراً ضمن اتفاقية بين قناة الجزيرة الوثائقية وفوكس سينما في الإمارات. الفيلم لا يسلط الضوء على أغاني فرقة «ناس الغيوان» بقدر ما يسلط على العوامل التي كانت سبباً في تحول هذه الفرقة الى ملاذ الشعب المغربي خصوصاً والمغاربي بشكل عام، خصوصاً ان ظهورها كان في فترة أواخر الستينات، فصدحت أغاني «ناس الغيوان» تعبر عن الخوف وكسر حالة الصمت، منادية بتحقيق الكرامة للإنسان.
عند الحديث عن فيلم وثائقي، فالتوقعات نحو شكل المادة الفيلمية يأتي بالدرجة الثانية مقارنة بالمادة المنقولة عبر شهود عيان، وهذا ما يميز الفيلم الوثائقي.
في فيلم «ظاهرة ناس الغيوان» الموسيقى حاضرة وشاهدة على المرحلة وأغنيات تنتشر بين مشاهد الفيلم الذي تجاوزت مدته الساعة، مثل حضور أعضاء في الفرقة أو مناصرين لها، اضافة الى مشاهد من أفلام مغاربية يتناسب موضوعها و«ظاهرة ناس الغيوان».
هو فيلم يأخذك الى عالم موسيقي كان موجوداً لحماً ودماً، لينتقل بك الى تساؤل عن السبب وراء عدم الاستمرارية من خلال تكهنات فقط. تساؤل عن حال الفرقة التي كانت تعتمد على كلمات أغانيها على سؤال توجهه الى المستمع.
لمشاهدة المزيد من المواضيع عن الفن السابع، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
واعتمد بن حمو على أن يعيش المتفرج كأنه داخل مسرح كبير أو قاعة سينما، فكل المواد المصورة سواء من الأفلام أو من حفلات الفرقة وأغنياتها كانت تعرض على شاشة كبيرة ومقاعد فارغة، وصوت معلقين يخرج بين الحين والآخر. فالفرقة اذا عدت للبحث عنها تعي أنه لا يمكن الحديث عن الثقافة المغاربية دون الحديث عنها، فكما قال مصطفى حركات صديق فرقة ناس الغيوان، «أرفض أن تسمى الفرقة بظاهرة، لأن الظاهرة تزول، هي تمثل ثقافة قائمة بحد ذاتها لا يمكن أن تمحوها السنون أو الغياب».
لماذا الصمت؟
سؤال كبير طرحه المخرج المغربي حسن بن جلون مخرج فيلم «درب مولاي الشريف»، الذي كان ومقاطع من فيلمه شاهدين على فرقة «ناس الغيوان». يقول بن جلون في شهادته «عندما ظهرت الفرقة قلنا لماذا نكون ضحية الصمت؟ لماذا أنا صامت؟». لتأتي مشاهد من فيلمه «درب مولاي الشريف» وهو من بطولة محمد نظيف وحنان الإبراهيمي، اذ يعالج الفيلم الذي يعتبر أول من تطرق لقضية جد حساسة في تاريخ المغرب بعد الاستقلال وهي مشكلات حقوق الإنسان في سبعينات القرن الماضي في المغرب وعن المعتقلين السياسيين. وهو مستوحى من رواية مقتطفة من قصة حقيقية لجواد مديدش المعتقل السياسي السابق.
صورت مشاهد الفيلم في سجن حقيقي مثل فيه مشاهد التعذيب التي تعرض لها السجناء السياسيون بالمعتقل السري بدرب مولاي شريف بمدينة الدار البيضاء، ما جعل الفيلم أكثر صدقية وخول له الفوز بجوائز عدة بمهرجانات داخل المغرب وخارجه.
ويضيف بن جلون «كانت تسمى مرحلة سنوات الرصاص، التي كانت تصب جام غضبها على العشوائيات والفقراء والثوار. وقتها لم يكن يعرف المغربي هل سيعود الى البيت أم لا، خصوصاً اذا كان الشخص المطلوب أو من أقاربه أو حتى يشبهه»، مؤكداً «هذا هو الظلم بعينه»، مستشهداً بقصة شخص سجن 14 عاماً لأن لديه دراجة تشبه دراجة شخص مطلوب لدى السلطات.
ويعود ويتنفس الصعداء في ذكر فرقة «ناس الغيوان»، ويقول «جاءت كالصرخة الموجودة في جوف كل مظلوم وكانوا في تلك الفترة كثراً».
ليؤكد كلامه المخرج المغربي علي شرف الذي قال «كانت فرقة تجهر بكل ما كان سرا»، فتأتي اغنية «مهمومة هذه الدنيا مهمومة» لتكمل كلام الشاهد، مع مشاهد متنوعة لمناطق فقيرة بالحي المحمدي «منطقة أعضاء الفرقة» ووجوه ذابلة من شدة الظلم.
أسئلة الأغاني
مقطع غنائي «ايه الحال يا أهل الحال، متى يصفى الحال؟»، عبارات مفهومة للجميع وتساؤل مشروع، وبسيط، لكن الاجابة عنه دائماً تكون مراوغة خوفا من قيد يأسر حرية المجيب، مثل ما قال زهير كمادي من جمعية «ناس الغيوان» إن الأغنيات الغيوانية كانت تعتمد على سؤال عنوانه كبير «أين صوتي؟»، وكأن «فرقة ناس الغيوان» قررت أن تكون هذا الصوت فغنت «غير خودوني، ونرجاك أنا، وسبحان الله صيفنا ولا شتوة، وضايعين ضايعين، والهمامي يا خويا وصبرا وشاتيلا» وغيرها من الأغنيات التي كانت ترفع نسبة الغضب في دماء المقهورين.
حضور الأم
منذ الستينات الى أواسط التسعينات وبعد موت وقدوم جدد على الفرقة حاول المؤسسون لها أن يستمروا بالنسق نفسه، لكنهم اكتفوا بأن يظلوا ثقافة راسخة على أن يقدموا اقل من المتوقع.
يأتي مشهد من فيلم «دم الآخر» للمخرج المغربي محمد لطفي، فصوت وصورة عمر السيد أحد مؤسسي الفرقة الذي اكد أن الأم والهدهدة ما قبل نوم طفلها الممزوجة بأغنيات الأطفال كانت حاضرة في قلب ووجدان كل فرد في الفرقة، حتى إنه ذهب الى وصف الأعضاء بأنوثة الأمومة «نعم كنا نمتلك أنوثة الأم في حنانها وصبرها وعطائها لذلك كنا أقرب الى الناس»، فالطفل أول موسيقى يسمعها هي دقات قلب أمه عندما يوضع على صدرها بعد صرخته الأولى، فيظل يبحث طول عمره عن موسيقى تعود به الى ذلك الحضن. ليعود ويؤكد «موهبتنا من أمهاتنا وليست من آبائنا».
بعيداً عن الشكل
لم يركز فيلم «ظاهرة ناس الغيوان» للمخرج عمر كاملي بن حمو على شكل الفرقة وشكل أعضائها، مثلما فعل المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي في فيلمه «الحال» الذي تناول «ناس الغيوان» بشكل مباشر، وانما ركز الفيلم الوثائقي على العوامل التي كانت السبب وراء انتشارها، لكن ظهورهم بين الفينة والأخرى في الفيلم يعطي تخيلاً واضحاً، فهم قادمون من منطقـة فقيرة من رحـم الحي المحمدي، لا يملكون شهادات عليا ولا مهنة رزق ثابتة. هم ثائرون بالفطرة وجدوا ضالتهم بكلمات وموسيقى، وتجمعوا مثل عائلة، بوجمعة أحكور «بوجميع» يعتبر الأب الروحي للفرقة، والعربي باطما، وعمر السيد، وعبدالرحمن قيروش «باكو»، وعلال يعلى، هم أعضاء الفرقة وصانعو مجدها.
أغنيات اعضاء الفرقة وألحانهم عبارة عن تنوع ثقافي عربي أمازيغي افريقي أندلسي، معتمد على الموروث الشعبي الذي نجح شاعرها العربي باطما في مزجه بروح عصرية شبابية ليتقبلها جيل الشباب وعتاقة كلاسيكية لتحظى بإعجاب الكبار في السن، فكما وصفهم المخرج علي شرف «صالحونا مع تراثنا، بحيث اصبحنا نسمع كلاما كان قاب قوسين من الاختفاء عن الساحة والذاكرة».