ثارت مشاعر الحضور الذين وقفوا بين مشاعر مختلفة لها علاقة بالمسامحة أو اللعن. أرشيفية

القاتل يعتذر بخجل أمام الكاميرا

بين قتلى ومفقودين ومشوهين، تشغل إليان الراهب كاميرتها على وجه الرجل الثاني في مخابرات «القوات اللبنانية»، أسعد الشفتري، أحد أبرز الأشخاص الذين كانوا وراء السبب الحقيقي لكل هذا الوجع والألم في الفيلم التسجيلي الطويل «ليالي بلا نوم» لتعود حكايات لم تذكر بعد عن الحرب اللبنانية، لكن هذه المرة بين شخص ملطخة يداه بالدماء يريد أن يعتذر عن كل هذا ويعترف اعترافات خجولة ليست كاملة كي لا يغضب القبيلة «المارونية» ربما، وبين «مريم» أم ثكلى تبحث بين الأنقاض عن قبر ابنها الذي ذهب في مجزرة .

هذا الفيلم الذي عرض أخيراً في الدورة ‬16 من مهرجان الاسماعيلية ونال جائزة «جمعية النقاد السينمائيين المصريين» وعرض في الدورة الفائتة من مهرجان دبي السينمائي، اثار مشاعر الحضور الذين وقفوا بين مشاعر مختلفة لها علاقة بمسامحة «الشفتري» على جرائمه، وبين لعنه بعد كل هذه الاعترافات، في المقابل كان هناك، بشكل غير مخطط، فيلم مهدي فليفل الذي نال جائزة افضل فيلم في المهرجان «عالم ليس لنا» الذي عرض سابقاً ونال جائزة «اللؤلؤة السوداء» في مهرجان ابوظبي السينمائي، في دورته الفائتة، كي يكمل هذه الحكاية بسخرية موجعة عن تناوله لعائلة تتكون من ثلاثة أجيال في مخيم عين الحلوة، تعيش حياتها عبر صور لا تخلو من قصص ملطخة بالدم اثر الحرب اللبنانية ايضا.

ليس تبريراً

للحديث عن فيلم «ليالي بلا نوم» ومدته ساعتان مليئتان بالمفاجآت المؤلمة، التي لها علاقة بالتركيز على شخص يظهر بمعالم وجه لا يمكن تفسيرها اذا كانت باردة أو خجولة أو نادمة، كيف لقلب أن يحتمل سماع كل هذا الموت بطريقة لها علاقة بسؤال لا يحضر الجواب الكامل دائماً لاعتبارات لها علاقة باحترام المذهب، «الشفتري» وهو الرجل الثاني في القوات، ينصاع لأوامر كاميرا الراهب ويحاول الهرب والإنكار قدر استطاعته، لكن تسجيل كلامه في مسجلة الراهب الخاصة كانت له بالمرصاد، يحكي التعاون بين القوات اللبنانية وبين «اسرائيل» في القضاء على الفلسطينيين والمسلمين بشكل عام، يحكي وهو يحاول أن يبدو عليه الندم، الزيارات الخفية بين الطرفين والاحتفالات على دماء كانت تسكب كل يوم، لأبرياء وأطفال ونساء، يحكي مستعيناً بنص اعتذاره الذي نشره في صحف لبنانية عن كل جثة تم القاؤها في البحر أو دفنها في مقابر جماعية أو اخفاؤها، يعتذر عن خسارة عائلات لأطفالها، يعتذر عن كل هذا ويطلب السماح، طوال الفيلم وهو يعتذر حتى إن ابنه الوحيد بطريقة باردة يستهزئ بهذا الاعتذار ويقول أمام كاميرا الراهب «بيكفي اعتذر مرة مش ضروري يضل يعتذر» فتضحك والدته معه، هذه الوالدة التي بعد انتهاء الحرب عاشت النزوح بسبب توازنات سياسية، والتي قالت كنت اريد أن اذهب الى الفلسطينيين واقول لهم «صرت نازحة متلكم».

البحث عن مفقود

مع كل هذه الاعترافات تظهر «مريم» والدة لثلاث بنات وشاب التحق بالقوات الشيوعية اثناء الحرب اللبنانية الأهلية، واختفى بعد مجزرة اطلق عليها «مجزرة كلية العلوم» هذه الأم ومنذ الحرب وهي تريد جواباً عن سؤالها «اين ابني؟ هل مازال على قيد الحياة أم استشهد؟ واذا استشهد اين قبره؟ فلدي من القصص ما أحكيها، ومن حقي أن أزوره وأضع الورد على شاهدة موته».

هي الثانية تظهر بمعالم وجه مختلفة بين غضب وحنين ومحاولة طي الصفحة بلا جدوى، قضت حياتها في قضية ابنها تسمع آراء من هنا وهناك، لا تريد تصديق أي منها، تريد شيئاً ملموساً كقبر تزوره كل فترة، وهذا ما وضع فيلم الراهب في المحك، فغاصت أكثر في التفاصيل محاولة البحث عن انتصار لـ«مريم» كان باستجماع خيوط كل الحكاية لتظهر شخصية بخيال وصوت يدلها على هذا القبر، وورود تحملها الأم لم تستطع أن تضعها، فلا شاهد على وجود هذا القبر المدفون تحت انقاض مبسطة الى جانب جثث عدة، تريد أن تعيش على الأمل أو بالأحرى أن تظل هذه القضية موجودة كي تجبر غير «الشفتري» في الاعتراف ربما. وهذه كان نهاية المشهد في الفيلم بخصوص قصة «مريم» التي سبقها مشهد لمعرض فني يضم صور مفقودين منذ الحرب الأهلية التي تشاء المصادفة حسب تأكيد المخرجة بالتقائها مع «الشفتري» في الموعد نفسه، ومع أن الفيلم ضم الكثير من المشاهد الأقرب الى الدرامية من التسجيلية، إلا أن هذا المشهد كان حياً ومباشراً، حيث وقفت «مريم» أمام «الشفتري» وأصابها انهيار عصبي مع صراخ وبكاء، يحاول «الشفتري» أن يحصل على السماح من قبل «مريم» فترد عليه «اذا كنت تريد أن تخبرني اين ابني فسأسمعك، غير هذا لا» فيخيم الصمت، وترحل من المعرض مع دموعها التي لم تجف يوماً.

الخسارة

«الشفتري» الذي أحرج والده أمام كاميرا الراهب عندما أراد أن يستعرض العلاقات الجيدة بينه وبين مسلمين في لبنان، اذ رد «الشفتري» عليه «هذا الكلام ليس صحيحاً، بحياتنا لم تكن لدينا علاقة مع الآخر المختلف عن ديانتنا»، فتركز الراهب على وجه الأب الذي بدا عليه الحرج، وتستمر حكاية اعترافات «الشفتري» فيؤكد أن الدولة اللبنانية كانت حلماً مثل الدولة الاسرائيلية، الحلم هنا مقرون بالدولة المارونية كمذهب يعتقد نفسه الأنقى حسب تعبير «الشفتري» لذلك كان هناك تعاون بيننا سقط مع اغتيال بشير الجميل، الذي كان رئيساً للبنان، ما أدى الى خلافات بين القوى وانقسام للقوات بين فريق سمير جعجع وفريق ايلي حبيقة الذي كان يتبعه «الشفتري» الذي هزم أمام جعجع، فوجد نفسه ورفاقه في زحلة واصبح حالهم مثل حال اللاجئين الفلسطينيين، فأحسوا لأول مرة بخسارة الحرب، وخسارة حلم الدولة المارونية اللبنانية، تقرر المخرجة ان تنهي قصة «الشفتري» وهو يرتدي ملابس المهرج، والمعروف عن المهرج أنه يضحك الناس لكنه حزين، مشهد له علاقة بانضمام «الشفتري» الى مؤسسة تدعو الى التخلص من الآثام من خلال الاعتراف بها، فوجد «الشفتري» أن أنسب طريقة له للتخلص من آثامه أن يكون مهرجاً.

البداية

انتهى الفيلم لكن بدايته تعود مع مشهد «أسعد شفتري» أمام كلية العلوم التي قضى فيها ابن «مريم» يقول: «بعد كل مرة أتحدث فيها عن الحرب أحتاج إلى أسبوعين لكي أشفى، أسبوعين مليئين بالقلق وليالٍ بلا نوم».

مقبرتان جماعيتان

في «ليالي بلا نوم»، استطاعت إليان الراهب الحصول على اعتراف من أسعد الشفتري، ومحارب آخر في «القوات» بوجود مقبرتين جماعيتين: الأولى في الكرنتينا، والثانية خلف فرع العلوم في الجامعة اللبنانية في الحدث.

اعتراف مسجل وموثّق، يُعَدّ بلاغاً للدولة التي يجب أن تتحرك لضم تلك المواقع إلى لائحة المقابر الجماعية التي اعتُرف بها عام ‬2000، وتعين حارساً لحمايتها، ثم المباشرة في التنقيب عن جثث المفقودين.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط .

الأكثر مشاركة