«بيروت الغربية».. سؤال عن ما بعــد الحرب
ناجي العلي، محمود درويش، مجزرة تل الزعتر، أسماء راسخة وحية في الذاكرة، فهي جميعها تنتمي الى قضية مازالت عالقة بين مفتاح معلق في صدور الأمهات والجدات على أمل العودة، وبين طاولة مفاوضات ومماطلات ومداولات تراوح مكانها. قضية اسمها فلسطين المحتلة. واللافت أن شهر أغسطس يمثل خيطاً درامياً يربط بين مصائر الأسماء الثلاثة، إذ استشهد فنان الكاريكاتير ناجي العلي في 29 من أغسطس 1987، بعد أيام من إطلاق الرصاص عليه، وتوفي الشاعر محمود درويش في التاسع من أغسطس 2008، وارتكبت مجزرة تل الزعتر في 12 من أغسطس 1976. والأمر الآخر الذي يربط بين تلك الأسماء هو ارتباطها العاطفي بلبنان، إذ شاء القدر أن يجمعها في الهوية، وفي القضية، وفي الموت في الشهر نفسه.
ولعل فيلم «بيروت الغربية»، للمخرج زياد دويري، يمثل حالاتهم، ليس لأنه يحكي كما غيره من الأفلام عن الحرب اللبنانية الأهلية، بل لأنه يحكي ما رسمه ناجي العلي، وما كتبه درويش بعد مجزرة تل الزعتر، وعن الحال بعد الحرب.
الفكرة في النهاية
«الحرب تقرب بين الناس، هذا ما أقتنع به، لكن بعد الحرب هل سنظل مع بعضنا». تبدو هذه الجملة التي قالها (رياض) والد بطل الفيلم (طارق) لزوجته (هالة)، لا تعبر عن بداية الفيلم الفعلية، بل كانت في الجزء الأخير منه، لكنها تلخص حكاية حرب أهلية لم تؤثر في علاقة اللبنانيين بعضهم بعضاً فقط، بل تعدتها إلى علاقة لبنان مع الفلسطينيين تحديدا ومع سورية. في هذا المشهد الذي صور في العتمة نتيجة انقطاع الكهرباء في «بيروت الغربية» تجلس (هالة) إلى جانب زوجها القومي الفكر والمناهض للإمبريالية، تحاول إقناعه بالهجرة، وهو رافض تماما لأن الذريعة التي تحاول إقناع زوجها بها «عدم احتمال الذل»، ليجيبها «وإذا ذهبنا الى أميركا، التي تعتبر كل عربي إرهابيا أليس هذا ذلا، أو في أي بلد أوروبي ينعتوننا بالكلاب الجائعة ليس ذلا؟». وبذلك تقتنع الزوجة أمام هذا المنطق الذي طرحه زوجها، وتعده بالبقاء إلى جانبه، ليجيبها بما بدأ به النص «المهم أن نبقى مع بعض بعد الحرب».
لكن الحرب لا تفكر إلا في الموت، فتترك رياض وطارق وحدهما بعد أن تموت هالة دون مشهد مباشر، هو فقط مشهد النهاية التي نرى فيه الأب يجلس حاضنا عوده، وابنه طارق الواقف، وهو يسمع خلسة اللحن الحزين على هذا الوداع، لينتقل المخرج الدويري إلى لقطات أرشيفية من واقع المعاناة التي عاشها اللبنانيون والفلسطينيون، وقد حدثت مجزرة تل الزعتر.
النشيد اللبناني
يريد دويري أن يعرّف المشاهد إلى شخصية (طارق) الشاب الوسيم، طالب المدرسة المشاغب، المدلل نوعا ما لأنه الولد الوحيد لعائلته، المراهق في الوقت نفسه، والباحث عن كل أمر يثير فيه ذكورته ليختبرها. يظهر طارق وصديقه عمر الذي يحمل كاميرا فيديو دائما، وهما يحاولان معرفة نوع الطائرة التي تحلق فوقهما في باحة المدرسة، يخرج صوت المديرة بلهجتها الفرنسية، لتنبيه الطلاب للاصطفاف لتحية العلم، فتبدأ ألحان النشيد الوطني الفرنسي، في هذا الحين يهرب (طارق) إلى صفه، ويظهر ومعه مكبر الصوت، ليشدو النشيد الوطني اللبناني مع تصفيق حار من قبل زملائه من كل الطوائف، فلم تكن الحرب قد بدأت. يعاقب (طارق) من المديرة على فعلته، وتخرجه من الصف، ليكون شاهدا على أولى طلقات بين سكان بيروت الشرقية وبيروت الغربية، من قبل ملثمين. الإنذار يصدح في الشوارع ويهرع الأهالي لاصطحاب أبنائهم، وتبدأ الحكاية في أبريل عام 1973.
بداية
يطمئن والد طارق عائلته بأن الذي حصل لا يغدو سوى رد «إسرائيلي» على الفلسطينيين الموجودين في لبنان، لعملية قاموا بها في «تل أبيب»، فتقتنع العائلة القومية النهج بهذا التحليل، مع انتشار الخبر أن الفلسطينيين هم السبب في هذه الطلقات الأولى التي أقضت سكينة بيروت. لكن ما يلبث تكرار الطلقات إلا أن يضع كل هؤلاء أمام حقيقة حاولوا إخفاءها كثيرا، وهي بداية الحرب الأهلية القائمة بين الطوائف المختلفة اللبنانية وأهالي المخيمات الفلسطينية. ولم تكن هذه الفترة تفصلها عن مذبحة تل الزعتر سوى أربعة اشهر، مع ظهور المراهقة مي الآتية من بيروت الشرقية تحمل الصليب على صدرها، إلى بيروت الغربية ذات الأغلبية المسلمة.
مراهقون
الحكاية وأحداثها قائمة على تحركات المراهقين (طارق وعمر ومي)، غير المدركين ما يحدث حولهم، كما أن سؤالا يتردد عن سبب تغيبهم، إذ إنهم يحاولون تحقيق أحلامهم المتمثلة في فيلم فيديو صوره (عمر)، لتبدأ رحلة البحث عن محال لتحميض الفيلم، وكانت تلك الجولات، في ظل هذه الظروف أشبه بالبحث عن الموت. لكن (طارق) يواصل إصراره على تجاوز كل العقبات والحواجز والتهديدات التي كادت تصيبهم في مقتل، تلك المغامرة كانت تركز على البحث عن شيء يهم المراهقين، حتى لو ظهر سطحيا بالنسبة لآخرين.
لكن الإصرار يبدأ بالتلاشي مع حوار بين طارق وعمر، الذي جعل مي تنزع صليبها كي لا تجلب لهم المشكلات. وقال «والدي يريدني أن أصلي في الجامع، ووالدتي ذهبت إلى السوق لشراء الحجاب، وأنا لا أريد فعل هذا الأمر إرضاء لوالدي الذي تغير فجأة». هذا الحوار هو الذي وضع المراهقين أمام الحقيقة، ثمة حرب تترصد بهم، في الوقت نفسه تظهر على مي علامات الإعجاب بعمر لحنكته التي حققت نجاتهم أكثر من مرة، ليكشف لها أنه وضع صليبها إلى جانب آية قرآنية على صدره، كي يستطيع المرور من أي حاجز يريده.
صورة
من الصعب ذكر الحرب اللبنانية دون ذكر الفلسطينيين عناصر مقاومة ولاجئين، وفي فيلم «بيروت الغربية» ظهرت صورة الفلسطيني كأنه بداية الشرارة للحرب، من خلال حافلة ركاب تحمل مدنيين فلسطينيين ولبنانيين، يهاجم الحافلة عناصر يظهر بعد ذلك أنهم من الكتائب، ويقومون بقتل الركاب في الشارع. تبدأ موجة الغضب من قبل السكان، تترجم في رد فعل الجارة التي أظهرها المخرج دويري عصبية المزاج وسليطة اللسان على كل من يعارضها في الرأي. يظهر غضبها وقت النزول الى الملاجئ، حين تتوجه الى فلسطيني بقولها «عودوا إلى دياركم، أنتم سبب الخراب»، فقد استطاعت الجهات المستفيدة في هذه الحرب توجيه ضربة إلى الوجود الفلسطيني في لبنان.
لكنّ عنواناً رئيساً في صحيفة كان كفيلا بإعادة النظر إلى ما يحدث فعلا بين بيروت الشرقية والغربية، مع أن اللقطة لم تأخذ بضع ثوان إلا أنها كانت مفصلية، إذ يحمل (طارق) صحيفة على صفحتها الأولى مكتوب: تل الزعتر يقصف بعنف. ويعود الفلسطيني مرة أخرى في الفيلم، لكن هذه المرة في صورة ضحية وليس سببا للحرب. وقد وصلت رائحة جثث أكثر من 3000 شهيد في مذبحة لم يعلن عن اسبابها، إلا بعد انتهائها بـ10 سنوات.
بيت بيروت
أم وليد صاحبة أشهر بيت دعارة تصدم بوجود (طارق) في بيتها، فهو الهارب من مشادة بين أنصار كمال جنبلاط ومعارضيه، في سيارة قصدت هذا المنزل. تسأله «انت من وين؟». ليجيبها «أنا من بيروت الشرقية». فتغضب وتقول «في بيت أم وليد لا يوجد بيروت شرقية وبيروت غربية، يوجد بيروت فقط»، وتلفت نظره إلى جموع الرجال والنساء في بيتها، من خلال ذكر أسمائهم التي تنتمي إلى طوائف مختلفة. يتجدد الأمل في قلب (طارق) بأن ثمة مكانا يجمع الكل، غير آبه بفكرة بيت الدعارة، لكن ما يلبث هذا الأمل ايضا ان يختفي، في الزيارة الثانية التي اصطحب فيها صديقيه (عمر ومي)، يدخل على أم وليد فيجدها غاضبة وهي تتحدث في الهاتف، تنظر اليه وتأمره بالعودة، وتؤكد توصيفه الأول بأنه من بيروت الشرقية.
النهاية
ختام الفيلم بعد معرفة أن (هالة) والدة طارق كانت من ضحايا الحرب، تنتقل كاميرا دويري إلى رصد مشاهد توثيقية مأخوذة من شوارع بيروت الشرقية والغربية، من خلال مشاهد حقيقية، تظهر أيضا شعارات الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية على جدران منازل بيروت الغربية، ووجوه سياسية، منها صورة للرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كان وقتها زعيما لمنظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ومشهد لعجوز فلسطينية تلوح ببندقيتها، وصورة من مجزرة تل الزعتر، تتمثل في امرأة هاربة من جحيم الموت.
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.