صورة من الثورة الإيرانية في السبعينات. أرشيفية

«ثورتي المسروقة».. إيرانيات تحــت التعذيب

من الممكن أن يكون اسمها إيمان أو خديجة أو سارة، لا تهم الأسماء في حضرة جسد امرأة يتعذب ويغتصب لأنه رفض إلا أن يكون حراً من اي نوع من التبعية، هذه ببساطة حكاية بطلات الفيلم الوثائقي «ثورتي المسروقة» للمخرجة الإيرانية ناهد برسون، والذي عرض لأول مرة في الشرق الأوسط في مهرجان ابوظبي السينمائي الذي اختتمت فعالياته أخيراً، وحصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية. 

6 نساء

يحكي الفيلم قصة خمس نساء والمخرجة سادستهن، وتجربتهن المريرة في السجون الإيرانية ابان الثورة الايرانية التي أطاحت بشاه ايران، والتي «سرقها الخميني» حسب وصف السيدات اللاتي أصبحن بليبراليتهن ملاحقات أمنياً لأنهن يروجن لضرورة عودة مسار الثورة وأساسها الديمقراطية التي وصفها الخميني بأنها «مصطلح غربي فاجتنبوه».

لمشاهدة تفاصيل أوفر عن الموضوع، يرجي الضغط على هذا الرابط.

لم يفرج عنهن إلا بعد اعتقال تراوح بين 10 الى 15 عاماً بسبب عفو رئاسي أو ما شابه، بل لأن لجنة التحقيق الدولية حينها قررت زيارة السجون الايرانية بعد اصرار الخميني على عدم وجود معتقلي رأي، فتخلص وقتها قدر ما استطاع ضمن اعدامات جماعية لأغلبية المعتقلين، وفتح السجون لمن تبقى منهم، فكان للنسوة الخمس الحظ في الفرار حسب ما روين في القصة، وكان التحدي المشترك بينهن وبين عائلاتهن عندما التقت عيونهن لأول مرة خارج أسوار السجن والغرفة التي كانت تجمعهن مع ما فوق الـ150 معتقلة بأنهن مازلن على العهد ولم يمسهن الجنون، فكان المنفى طريقهن للحفاظ على ما تبقى من عقل على أجساد انتهكت وضربت وشوهت أيضاً.

بعد 30 عاماَ من فرارهن في فترة السبعينات، قررت مخرجة الفيلم أن تبحث عنهن، فلديها معهن قصة، فهي التي استطاعت أن تهرب هي وابنتها الرضيعة الى السويد قبل أن يعتقلها نظام الخميني، واعتقل شقيقها بدلاً عنها، وأعدمه ايضاً وهو لم يتجاوز الـ17 من عمره، فحملت ناهد ذنب أخيها ودمه في رقبتها، ولم تجف دموعها يوماً، وشعرت بأن خلاصها يكمن في أن تعيش تجربة المعتقل مع من عاشه فعلاً، وأن تشعر بكل شيء كي تحاول أن تلمس شيئاً من معاناة شقيقها (رستم) قبل اعدامه.

عن طريق الجو استطاعت أن تصل إليهن فكل واحدة منهن في منفى (بارفانيه، ونازليـه، وسودابيه، ومنيريه، وأزار) هذه أسماؤهن التي من الممكن أن تشبه أسماء كثيرة لم يسعفهن ضوء كاميرا كي يلتقط معاناتهن، يعشن في النرويج والسويد وأميركا وألمانيا، وبريطانيا، تسافر اليهن محملة بأسئلة كثيرة تتمنى أن تلقى الإجابة عنها.

هذا القرار يأتي تفاصيله بين المشهد الأول المملوء بالصور الوثائقية المفعمة بالحلم والأمل في الثورة الايرانية، وكيف سرقت هذه الثورة، وتحولت إيران إلى بلد يقضي على كل شخص يعارضه، وبين مشهد النهاية الذي كان ايضاً عبارة عن صور وثائقية تؤكد من خلالها المخرجة وبصوتها أن الثورة مازالت مستمرة، وأن الاعلام غاب عن رصد ما يحدث في ايران في السنوات الثلاث الأخيرة، مع صور حية مفعمة بالأمل ايضاً والحلم.

مسار واحد

هل يمكن أن تتشابه القصص إلى هذا الحد؟ نعم اذا ما كانت طريقة التعذيب واحدة، هذه كانت اجابة المخرجة لسؤال «الإمارات اليوم»، فعند النظر اليهن يجلسن في هدوء في منازلهن يمارسن الرسم والنحت والتأمل، كل في بلدن لكن عيونهن لا تتركز في مسار واحد، الرفة في الجفن موجودة، البحة التي تقاوم الاهتزاز خوفاً موجودة، الأنا العالية في كرامتها، والتي تتحدى ذكرى اغتصابهن، فإحداهن أكدت «كنت اقاوم كل اساليب التعذيب، وأعود إلى الغرفة ألتصق برفيقاتي وأنام جالسة، إلا في يوم اقتدت معصوبة العينين، وتم اغتصابي» هذه تحديدا لديها قصة ايضاً انها جاءت وابنتها الى المعتقل، فعاشت طفلتها معها، وشاهدت بأم عينيها تعذيب أمها «في يوم كانت طفلتي تلعب بدميتها وتضربها بشكل عنيف وتقول صارخة: اعترفي أنت خائنة خائنة».

أدوات في المعتقل

ولأخرى قصة من نوع آخر، فهي تحب الرسم والنحت، وحاولت صنع أدواتها في المعتقل من لا شيء، من شعرها ومن خشب ومن اشياء أخرى، كانت تظل ترسم وتخبئ ما ترسمه، والثالثة ترسم ايضاً، لكنها استغنت عن ذلك فترة وجودها في المعتقل، وفور خروجها لزمها الأمر ستة اشهر كي تبتاع أول ريشة ألوان، وقالت «بدأت أهزء من سجاني بألواني» وهي نفسها المرأة التي تعاني عرجاً في ساقها من شدة الضرب.

بعد لقاء كل شخصية منهن على حدة تقرر ناهد أن تجمعهن في بيتها بالسويد، وتلبي النسوة الخمس النساء، مع غياب امرأة سادسة تعيش في الولايات المتحدة الأميركية، استبعدتها ناهد لأنها شعرت بأنها خنعت لتعاليم الخميني، خصوصاً بعد ان زارتها وأرتها رسومها، المشهد الذي لم يبرره مشاهدون، في حضرة المطالبة بحرية الرأي والتعددية دون الاقصاء، وهو المشهد الوحيد الذي من الممكن أن يقال عنه شكل خللاً في التوازن.

قصص أليمة تكشف بعد لقاء اشبه بالسحاب، وتحت سقف واحد وبعد 30 عاماً من حريتهن، لكن هذه المرة يعدن الى الماضي بآلامه، مؤكدات أن ثمة خطأ ارتكب «لم نكن منظمات كفاية كي نقود الى النهاية في وجود من يحلم طوال عمره بالسلطة».

قسوة وتعذيب

ومن الحكايات الغريبة القاسية في اساليب التعذيب ما يسمى بالقبور المفتوحة أو التابوت، تقول احداهن التي جربت هذا النوع «يتم عصب عيوننا، وربط أيادينا وأرجلنا، ورمينا في حفرة بالكاد تتسع لحجم أجسامنا، ولا يجوز أن نتحرك، فنحن أموات، هكذا يخبرنا (ساجي) وهو اسم معذبهم الأكثر قسوة»، وتضيف «كل يوم يأتي ويوهمنا أننا في البرزخ وعلينا التوبة»، وتؤكد «بعد أن يئس مني وبعد ستة اشهر من دون نور يدخل على عيني، نزع العصابة، وحينها شعرت بأنني بالفعل لست حية، شعور غريب ولا يمكن وصفه».

ومع كل هذه القصص التي تروى، وأغان فارسية تصدح، وكؤوس تضرب بعضها، ودموع كثيرة وضحكات أقل، يتكرر مشهدان طوال رحلة الذكريات هذه، المشهد الأول أن احداهن استطاعت أن تحتفظ بالعصبة التي كانت تغطي عينيها بها رغما عنها قبل أي نوع من التعذيب، حيث ارتدها كل امرأة منهن ولبست العباءة، وتصورت، والمشهد الثاني خاص بمجسم من الصلصال صنعته احداهن، يجسد شكل المعتقل والغرفة التي كان ينام فيها أكثر من 100 امرأة، ومواضع النوم، والمناوبة.

قصة ذكورية

ليأتي دور المخرجة في المشاهد النهائية من الفيلم، وتدخل فيها قصة ذكورية هذه المرة مع كل هؤلاء النساء، قصة شقيقها (رستم) السبب في حياتها وعدم تعرضها للتعذيب، والذي اعدم بعد ستة اشهر فقط على اعتقاله، تقول احداهن «أتذكر صوت الاعدام، فقد كان يحدث مرتين بالأسبوع، فقد كنت وزوجة شقيقي المعتقلة ايضاً نستمع الى هذا الصوت خصوصاً أننا ابلغنا أن شقيقي سيعدم»، وأضافت «ليلتها، أحصينا 86 طلقة وعرفنا أن أخي قتلته إحدى هذه الطلقات». ظل سؤال ناهد معلقاً، مع مغادرة النساء كل منهن الى منفاها، وبعد فترة تتلقى ناهد اتصالاً من احداهن تؤكد لها أنها وجدت رفيقاً لشقيقها في المعتقل، فتذهب اليه لتسمع آخر كلمات (رستم)، وتأكيد هذا الرفيق أن (رستم) أعدم ليس كبديل لها بل لانخراطه في المعارضة، وأنه صمد أمام التعذيب رغماً عن عمره الصغير ولم يفش الأسرار، وأن اعدامه كان محتوما حتى وإن كانت قد سلمت نفسها. وكما البداية ينتهي الفيلم بصور وثائقية لكنها عن الثورة الإيرانية التي حدثت في عام 2009، ولم تلق أي انتباه حسب تعبير صوت المخرجة.

الأكثر مشاركة