فيلم المخرج السوري في «دبي السينمائي»

«سلّم إلى دمشق».. ملص مع الحلم والحرية

صورة

يحار المشاهد وهو يتابع فيلم المخرج السوري محمد ملص «سلم إلى دمشق»، الذي عرض أول من أمس في الدورة العاشرة من مهرجان دبي السينمائي الدولي، فتارة يشعر أنه يجلس أمام خشبة مسرح، وأخرى يشعر أنه أمام معرض فني يضم لوحات تشكيلية ومنحوتات، وأيضاً يجد نفسه يسمع شعراً، ويقرأ صحيفة.. كل هذه الحالات مقصودة لنقل صورة مصغرة لتنوع فريد من نوعه يعيش في بلد اسمه سورية، ويجتمع دفعة واحدة في عاصمتها التي تعاني الألم حالياً، دمشق.

قد يكون أي مشهد في الفيلم صالحاً ليكون البداية، إذ يدور «سلم إلى دمشق» حول شخصيات متعددة الطوائف والثقافات، بين مدني وابن ضيعة وكردي وجولاني وفلسطيني، لا تهم الأسماء في حضرة موت قد يصيب أي واحد منهم، في ظل رصاص ينهمر من الأرض والجو لا يفرق بينهم وبين موقفهم من ثورة بدأت كالطوفان، حسب مشهد ضم الشخصية الأولى في الفيلم فؤاد، ولقبه (سينما) عندما أكد أن والده أهداه كاميرا كي يصور كل شيء، بعد أن صدح أول صوت مطالباً بالحرية. ذهب فؤاد إلى مقبرة فيها قبر السينمائي الراحل عمر أميرلاي، وجلس إلى جانب القبر، وقال «انكسر الخوف، طوفان يا عمر طوفان».

فانتازيا معهودة

«سلّم إلى دمشق» الذي أنتجه اللبناني جورج سقير، بالاشتراك مع الدوحة للإنتاج الفني ودنيا السورية للإنتاج الفني، حقق فضولاً كان يعتري كل شخص قريب من موقف ملص صاحب فيلم «أحلام المدينة»، الذي منذ بداية الثورة السورية أعلن أنه معها ومع الحلم، فاستطاع ملص بفنتازيته المعهودة أن يحكي دمشق بخصوصيتها التي تضم كل السوريين الآتين لها من كل بقعة سورية، والمتعايشين فيها ومعها إلى حين أصبحت لغة الدم فائضة عن الحاجة.


الحاجز.. كُسر

ملص صاحب «باب المقام» الذي بدأه بجملة «اش قد تغيرت حلب»، يريد هذه المرة، ومع كل الدخلاء على بلده، أن يؤكد من خلال فيلمه الجديد «سلم إلى دمشق» أن سورية تغيرت، وأن الأفضل أو الأسوأ من المبكر الحديث عنه، لكن الأهم أن حاجز الصمت والخوف كُسر.

هذا المشهد يأتي مباشرة بعد مشهد لفؤاد وهو خلف ستارة وبكرة تصوير، ويؤكد أن والده أهداه كاميرا كي يصور صرخات الناس المطالبة بالحرية: «لكن أبي لم يدرك أن كل من يخرج ليصور الحقيقة سيموت»، لينتقل المشهد إلى الأب وهو يسند رأسه ويبكي بحرقة، فيبدأ الفيلم معلناً عن شارة المشاركين فيه من مجموعة من الوجوه الشابة.

حكاية الفيلم تبدأ فعلياً مع غالية التي تتقمص شخصية فتاة اسمها زينة، وهذا التقمص يخص طائفة سورية بعينها لم يعلن عنها ملص مباشرة، ومن يعرف سورية ونسيجها سيكتشف السر في ما يجول في خاطر الهادئ ملص، صاحب فيلم «ظل الليل»، فعلى خشبة مسرح وتجربة أداء تغطي غالية نفسها بقماش أبيض، يجب عليها تمثيل مقولة ابن حزم «المثل في مثله ساكن»، فتقرر تغيير ما أرادت، وتحكي قصتها مع زينة التي اعتقل والدها وغرقت في البحر، تنجح غالية في الاختبار في حضرة فؤاد (سينما) الذي يلاحقها ليعرض عليها صناعة فيلم عن زينة، مشهد غالية وزينة اللتين تتحدان في شخصية واحدة مربك، وهو المشهد الذي أراد له ملص أن يبني كل القصة عليه.

تعود غالية إلى مدينتها طرطوس لتبشر عائلتها بنجاحها، تبحث عن أبيها المتقاعد قسراً من الجيش، ووالدتها التي تصفها بأنها قررت أن تحب أي شيء بعد فقدان حبيبها في الحرب بلبنان، قررت أن تحب حافظ الأسد مثلاً، لكنها لم تعد كذلك بعد تسريح زوجها، علاقة غالية بوالدها عميقة عمق بحر طرطوس، يجلس الأب ليتابع خطاب بشار الأسد، الكلام غير واضح يشبه كل خطاباته المنسلخة عن الواقع، وهناك جلبة وعدم اكتراث بما يقول، سوى بجملة يحكيها الأب للتلفزيون الذي يصدح بخطاب لم يزد البلد سوى دم «فخختوا البلد حولتوه لحقل ألغام حتى تخلوا كل ثمرة فيه فتنة»، في لهجة قصدها ملص ليوصل الرسالة أن الكل تأذى من تعنت من يريد الأبد، حتى لو كان من طائفته.

تقرر غالية الانتقال لدمشق، لتبدأ مسيرتها نحو التمثيل، تعيش في سكن يضم كل سورية بتعددها، بين حسين وفؤاد ورينا ولارا ونوارا وزياد، وهم ينحدرون من الساحل والجولان والسويداء وفلسطين، طوائف عديدة، جميعهم في حضرة صاحبة المنزل الدمشقية (أم سامي)، بينهم النحات والصحافي والشاعر والملاكم ومصممة الإعلانات التي تهيم حباً في تصميم صفحات الثورة، ويوجد بينهم زياد الجندي في الجيش السوري الذي ينبههم بين الحين والآخر أن الـ«فيس بوك» مراقب، خلطة غريبة عجيبة عن الذي لا يعرف سورية عن قرب، وواضحة وصريحة لكل من عاش في سورية ولو ليوم واحد.

غالية لم تأتِ وحدها إلى هذا السكن الذي تزين سطحه منحوتة عبارة عن قضبان سجن وجسد يرفع الرأس ليسترق النظر، أتت مع التي تسكنها زينة، ومنذ الليلة الأولى يفاجئها فؤاد (سينما) بفيلم يؤكد أن والد (زينة) قد تحرر من المعتقل بعد 17 عاماً، ومع قصته يثور المنزل، بين صراخ وتنديد وغضب ورسم ومقال وتصميم صفحة، وغيرها من الأدوات التي باتت مباحة للمرة الأولى في تاريخ حكم البعث السوري منذ أكثر من 40 عاماً، لكن الخوف مازال محفوراً، خصوصاً أن دمشق لم تتعرض إلى الخطر حينها كما ريفها.

الخوف من الانكسار بعد تخطي جدار الصمت هو أكبر هواجس شخصيات ملص، التي تشبهه إلى حد كبير في هدوئه وطريقة كلامه المتأنية، هم يدركون أن شيئاً عظيماً قد حدث، لكنهم ولأنهم سوريون يدركون أن النظام الذي حكمهم طوال سنين عمرهم وعمر آبائهم قادر ويمتلك جميع الأوراق التي يراد منها تكسير العزيمة، يتعرض السكن للكثير من المشاهد التي تعبر عن هذا الوصف، ليس بداية من اعتقال حسين حبيب نوارا، وليس مروراً بانهيار غالية بعد أن فقدت الاتصال بزينة، وليس انتهاءً ببكاء (أم سامي) عندما عادت ترتجف بعد صلاة الجمعة في الجامع الأموي، وتؤكد أن الذي شاهدته لم يشاهده أحد «الشباب عم بيموتوا عم بينسحلوا».

الهواجس تعيش في المنزل، تشعر بتربص غير معلن، أصحابها يحاولون الصمود، يجتازون صرخات الرصاص على شكل أطفال من الممكن أن أعناقها جزت، مطر كثير رومانسي وحنون لا يتلاءم مع صوت الموت المنتشر في كل مكان، علاقات حب سرية تنمو في الغرف المغلقة، وعلاقات حب معلنة بتواطؤ مع أم سامي الغاضة للبصر، لأن اللحظة كانت أقوى، دراما وتراجيديا وتمثيل مسرحي أكثر منه سينمائي، يعيشه المشاهد فقط ليصل إلى النهاية التي كانت بعد مشهدين وثائقيين حقيقيين استعان بهما ملص ليلخص كل كمية الهواجس هذه: الأول، مشهد الطفلة الشهيرة التي كانت تغني لسورية وللثورة «جنا جنا جنا غالي يا وطنا» وغطى الانفجار صوتها وروحها، والمشهد الثاني، في خبر تناول استشهاد باسل شحادة، فثار حسين الذي اعتقل سابقاً، كسر التلفاز، وطالب بسلم، يريد أن يصل من خلاله إلى فوق، يجري به ويجري كل من في السكن، فوق السطح يضعه مقابل منحوتة الرأس المقلوع من الجسد الذي ينظر من خلف القضبان، تمتد أيادي الجميع بلا استثناء لحماية السلم من الاهتزاز ومن وقوع حسين، يصرخ بأعلى صوته وقد بدت كل دمشق من حوله «حرية.. حرية.. حرية».

تويتر