«مانديلا».. مسجون سامحَ ســــجّانه
يُعد التسامح القرار الإنساني الأكثر جراءة وذكاءً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فهو يكاد يقلب المعركة مع الخصم «سجاناً كان أم جلاداً» إلى معركة مع الذات، ويدوم بالإرادة والحنكة ليتخطى الزمن وذاكرته، معززاً من الفرص الإنسانية بشكل فردي وجماعي.. ليس هذا كلاماً عابراً وشعارات، فثمة نموذج قريب وتجربة شخص فقده العالم، أخيراً، قبل أن يشاهد الفيلم الذي احتاج إلى 19 عاماً ليخرج إلى النور، وحمل اسم كتاب المناضل الراحل «مانديلا.. طريق طويل إلى الحرية»، وهو من إخراج جاستين شادويك، وبطولة إدريس ألبا وناعومي هاريس، ويعرض حالياً في دور السينما المحلية، بعد جولة على المهرجانات العالمية السينمائية؛ آخرها الدورة الـ10 من مهرجان دبي السينمائي.
تزامُن عرض الفيلم عالمياً مع توقيت وصول البرقيات من كل أنحاء العالم تنعى رئيس جنوب إفريقيا السابق نيلسون مانديلا، كان له وقع كبير، خصوصاً لمن تابع مسيرة هذا الرجل الذي حارب العنصرية ضد «السود» طوال حياته، وزُجّ به بالسجن لمدة 27 عاماً، ومع أن الفيلم لم يدخل في تفاصيل حياة السجن، بقدر ما سلط الضوء على نقاط مفصلية في حياة مانديلا الشخصية وتأثيرها في مسيرته السياسية، يشعر المشاهد أنه بحاجة إلى معلومات أكبر.
يظهر الماديبا مانديلا، كما كان يُطلَق عليه أسوة بالماديبا غاندي، شاباً يافعاً في اللقطات الأولى من الفيلم، ومع أقرانه في طقس إفريقي لوسمهم بالرجولة، يدورون حول والده (ملكهم)، يرش وجوههم ببودرة بيضاء، وهنا السخرية التي لها علاقة باللون، يرددون: «أنا رجل، أنا رجل» كإعلان للقبيلة بانتقال الصبية إلى مرحلة تحمّل المسؤولية.
محامٍ وقاضٍ
يقرر مانديلا دراسة المحاماة، للدفاع عن أبناء عرقه على الأقل، فمن المستحيل أن يقصده أبيض، الصعوبة في مهنته حينها، وهذا الحديث في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، حين كان السود في جنوب إفريقيا يمشون بأذونات حكومية، ومن لا يحمل هذه الأذونات يسجن ويقتل في بعض الأحيان، غياب العدل في فئة القضاة، لا يوجد أصعب من قاضٍ غير عادل، يقف أمامه الشاب مانديلا يدافع عن موكلته المتهمة بسرقة ملابس داخلية من بيضاء، مع أن الملابس الداخلية على حجم الموكلة، تشعر المدعية بالإهانة من مجرد وجود محامٍ أسود اللون يستجوبها، يتعاطف معها القاضي، لكنه يقفل القضية كي لا يعرض المدعية للإحراج أكثر، وليس انتصاراً لصاحبة البشرة السوداء، هذا المحك وغيره وقربه من مشكلات أبناء عرقه، يبني حافزاً لدى مانديلا بقبول عرض حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وينضم اليه.
كأي أصحاب حق، يطالبون بصون كرامتهم ونيل حقوقهم في التعليم والصحة وغيرهما، يطالبون بأن يجلسوا ومواطنيهم البيض في الحافلات والدرجات نفسها، يطالبون بالسير بحرية في الشوارع دون أذونات حكومية، يطالبون بالاندماج وشرب قهوة الصباح دون اشمئزاز من الباعة، يطالبون بالحرية، فيبدأون مسيرتهم بالطرق السلمية، من احتجاجات وتظاهرات، وإضراب عام، خصوصاً في الإضراب الذي اتفقوا فيه على عدم ركوب الحافلات، هنا قال مانديلا: «عندما ينقص عليهم المال الذي ندفعه لهم كل يوم سيجبرون على إعطائنا حقوقنا».
يلتف الجميع حول مانديلا ورفاقه، ينتظرون منهم كل يوم عنواناً لحركتهم السلمية، لكن النتيجة أن العنف والقتل من جانب الحكومة يكون لهم بالمرصاد، مع صور أرشيفية لطلبة جامعات ومدارس وهم ملقون على الأرض، تنقلب الموازين كلها، في الوقت الذي تهجر الزوجة الأولى لمانديلا المنزل مصطحبة أطفالهما الثلاثة، لعدم تفهمها أنه يصنع المستقبل لهؤلاء الأطفال، ووجود الدم على الأرصفة، ونساء ثكلى لفقدان الأبناء والأزواج، مع مشهد أشد حرقة عندما اجتمعوا رفاق الحزب والمؤمنين بهم وحرقوا جوازات سفرهم لعدم شعورهم بالأمان، فيقرر مانديلا ويعلن «اللاعنف.. لكن ليس بعد الآن».
طريق السلاح
تبدأ مرحلة التعلم على السلاح من خلال مخيمات عسكرية، لأشخاص لم يحملوا السلاح طوال حياتهم، بل كانوا يريدون العدل عن طرق السلم، فكان الدم لهم بالمرصاد، ومن بين العبارات التي قالها مانديلا أثناء هذا التحول: «يأتي على الأمة وقت تقف فيه أمام خيارين: الخنوع أو النضال»، مؤكداً «50 عاماً سابقة ونحن نناضل بالسلم، ولم يستجب لنا أحد، بل اعتدوا علينا ونحن لا نحمل السلاح، أريد الحرية، أريد لأبنائي المشي في سلام».
هذه المرحلة كانت بالستينات، وكان قد تزوج مانديلا من «ويني» العضوة أيضاً في الحزب، والمتفقة تماماً مع نهج مانديلا إلى حين، تستمر الأحداث والعمليات التي يقيمها الغاضبون، من تفجيرات مراكز أمنية وحيوية، وغيرها من المنشآت، ويظل مانديلا يهرب من مكان إلى آخر متنكراً، ويصبح المطلوب الأول من قبل الحكومة التي لم تسمعه يوماً وهو دون سلاح، الى أن يقوم ورفاقه بتفجير محطة الطاقة ومبانٍ حكومية، فيتم القبض عليهم جميعاً، وإدانتهم بتهمة التخريب والخيانة.
يتجمع الأفارقة أمام مبنى المحكمة في جوهانسبرغ، يقف مانديلا ورفيقاه (أحمد كاثرادا ووالتر سيسولو) أمام القاضي، مدركين أن حجتهم ضعيفة أمام تعنت عنصري تجاههم، يسمعون محامي الدفاع والإدانة وهم يتساومون على حقوقهم، خصوصاً أن حكم القاضي كاد أن يقترب من قرار إعدامهم، إلا أن الاتفاق بين المحامين هو تخفيض العقوبة إلى سجن مؤبد، وبناءً عليه قرر مانديلا إلقاء رسالة في المحكمة موجهة إلى القاضي كي يسمعها الأشخاص الذين آمنوا به، وأهم ما قال فيها «ليس حباً في العنف، لكننا نريد العدل، نريد حصة عادلة في السلطة، نريد صوتاً لكل إنسان، نريد كرامة للجميع».
ويني
تقرر زوجة مانديلا الثانية ويني المضي قدماً في مسيرة زوجها الذي تركها وطفلتيه إلى الأبد، حسب حكم المحكمة، في الوقت الذي يُزج بمانديلا ورفاقه في سجن بجزيرة روبن التي لا يحدها شيء سوى المدى، ويتعرضون لأشد أنواع القسوة في التعامل، تبدأ مع إعطاء ذوي البشرات السوداء سراويل قصيرة، وذوي البشرات البيضاء (وهم قلة) سراويل طويلة، فيأبى مانديلا هذا التصنيف ويقرر المطالبة بسروال طويل، وينجح لكن بعد مضي سنوات عدة، قضاها في تكسير الصخور، والوقوف في العراء والبرد تحت المطر، والبصق في طعامه، والكثير من المشاهد التي تظهر صور انتهاك الإنسان. الكلمات التي كان يسمعها من الأمن كانت أشد قسوة من الأفعال، ومع ذلك كان يحتمل ويلجأ إلى الرياضة، والقراءة كتهذيب للعقل، وبدا قليل الغضب كثير الابتسام، لكن «ويني» لم تكن تحمل هذا الحلم في القلب، فكانت وهي التي تعرضت لاعتقالات متفرقة وإبعاد عن طفلتيها وتعذيب، تزداد كرهاً وغضباً وعنفاً، وبسبب تجنيدها لشباب تحت إمرتها للقتل، تنقلب الموازين مرة ثانية.
خلال فترة سجن مانديلا الطويلة، يفقد أمه وابنه الكبير، ومع ذلك يضغط على الجرح، بعد أن وصل إلى صيغة لها علاقة بمستقبل أجيال كاملة لن تتحمل الدم مرة ثانية، لكنه في وادٍ وزوجته في وادٍ، يلتقيها من خلف جدار في السجن بالزيارات الرسمية، يحاول أن يهدئ من غضبها وقسوتها، بقوله: «انتصري على جلادك بالحكمة وليس بالسلاح»، لكن دون جدوى، فتقول: «أنا زوجة حرمت من زوجها، وحرمت من طفلتيها لفترة، وحرمت من وظيفتها، ومن حلمها، لن أستطيع أن أسامح». تمر السنوات وتكبر المشكلات بين الشعب الواحد المختلف اللون، وينتشر الدم في كل مكان، حتى ان وصل الأمر الى حد قتل السود بعضهم بعضاً، إذا شعر صاحب السلاح أن الآخر مستسلم. تعم الفوضى، وتكبر بنات مانديلا، ويصبح للكبيرة دورها في نشر قضية والدها ورفاقه عالمياً، فتقام التظاهرات في أنحاء العالم مطالبة بتحرير مانديلا، خصوصاً بعد نشر بعض رسائله المهربة.
محادثات
تمر أحداث كثيرة في الفيلم، وتبدأ المحادثات من قبل الحكومة مع مانديلا، على أمل إيجاد تسوية ترضي الأطراف وتنهي حالة الدم بين أصحاب الألوان المختلفة. توفر الحكومة لمانديلا سجناً داخلياً يستطيع فيه ملاقاة من أراد، اجتماعات مع وزير الدفاع والمخابرات ووزير الداخلية، يتحدثون طوال الوقت وهو يصمت، أو يعبر بحركة من وجهه على الموافقة، يعطيهم الإحساس أنه معهم ومع كل ما يقترحون، لكن الحقيقة أنه يريد الوصول الى الرئيس نفسه، وفي مشهد في السجن الإجباري في منزل واسع وجميل، يقترب الحارس من مانديلا ويقول له: «تستطيع دعوة زوجتك لتنام في المنزل»، فيجيبه مانديلا: «أنا مازلت مسجوناً، وهي لن ترضى أن تنام إلى جانب مسجون لم يحصل على حريته».
يحصل مانديلا على حريته، ويقرر العودة إلى منزله البسيط، وإلى جانبه زوجته وبناته، واستقبال حاشد وكبير وفرحة عمت العالم، لاسيما بعد إرجاع الحزب وعدم حظره، فتزداد الاجتماعات بين الحزب والحكومة، ما يغضب ويني التي تزيد من عنفها، وتكاد تتسبب في حرب أهلية بين أبناء العرق الواحد، هنا يقرر مانديلا، خصوصاً بعد استغلال الطرف الثاني العلاقة المتوترة بين الزوجين وتصوير ويني مع رجال آخرين، الانفصال عنها أمام وسائل الإعلام، وقال: «هي منطقة الضعف الوحيدة، التي نجحوا في الانتصار عليّ من خلالها، فلم يستطع أي شيء آخر أن يكسرني أو يهزمني».
يزداد القتل فيقرر مانديلا الخروج إلى الناس من خلال التلفزيون الوطني ويخاطبهم: «أنا سامحت سجاني، ومادمت استطعت مسامحته، فأنتم قادرون على أن تسامحوا أيضاً، عودوا إلى منازلكم، ونلتقي يوم الانتخابات». أحرج الخطاب الحكومة والسجان وكلّ من عذّب مانديلا، وقرر أن يرشح نفسه للانتخابات وأن يعطي حقاً للتصويت لكل الشعب، دون الرجوع إلى الحكومة التي خضعت لشخصية إنسانية لعالَم يحتاج إلى مثيلها في هذه الأوقات المملوءة بالدم.
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.