طوال أكثر من 30 عاماً، توطدت علاقة البطل مع السكك الحديد، التي كان يعرف كل مساراتها حول العالم، إذ يظهر كرجل شغوف بكل تفصيل له علاقة بشكل الخط وسيره. الإمارات اليوم

«رجل السكة الحديد».. الضحية تنتظر كلمة فقط

لابد أن تنهزم الكراهية يوماً ماً، والضحية تنتظر كلمة «آسف» فقط حتى تستطيع المسامحة.. بعض المشاعر التي يخرج بها مشاهد فيلم «رجل السكة الحديد» للمخرج الأسترالي جوناثان تبليتزكي، الذي يعرض حالياً في دور السينما المحلية، بعد جولة على المهرجانات الدولية، من ضمنها مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته العاشرة.

الفيلم الذي يؤدي دور البطولة فيه كولين فيرث ونيكول كيدمان وجيريمي إيرفيين وسام ربد وهيروكي ساندا، مستوحى من قصة حقيقية أثناء الحرب العالمية الثانية، مع الضابط البريطاني المهندس المتخصص باللاسلكي والإشارات إيريك لوماكس، ومحاولته الجاهدة في التغلب على تجربته القاسية كأسير حرب وقع في أسر القوات اليابانية عام 1942.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

طوال أكثر من 30 عاماً، توطدت فيها علاقته مع السكك الحديد، التي كان يعرف كل مساراتها حول العالم، إذ يظهر كرجل شغوف بكل تفصيل له علاقة بشكل الخط وسيره، وطريقة بنائه، حتى تظن أنه هاوٍ لا أكثر، يعاني حدثاً نفسياً، خصوصاً أنه في المشاهد الأولى من الفيلم ظهر مع مجموعة من الرجال المتقاعدين، في مكان يبوحون فيه بحكاياتهم، يضحكون لكن في وجوههم غصة، مجرد أن تسألهم عنها ينسحبون ببساطة، نظرتهم إلى لوماكس فيها الكثير من الحب والوفاء، ولوماكس لا ينظر إلى أحد، صامت إلى حين، إذ قرر أن يعطي قلبه للحب، وكان هذا أثناء جولاته التي لا تنتهي في إحدى محطات القطار، إذ تعرف على «باتي»، ووقع في غرامها من الرحلة الأولى، وهذا الحدث نقل المشاهد إلى معرفة من هو إيريك لوماكس، وتحديداً في زفافه، إذ اجتمع أصدقاؤه وحيّوه تحية عسكرية.

المصادفة وحدها جمعت الحبيبين في القطار، شغفهما بالكتب والسياحة أيضاً. وعرف إيريك الحب للمرة الأولى في حياته مع باتي، ولخبرته في جميع خطوط سير الرحلات، تتبعها إلى أن وجدها مرة أخرى، وكأنه أدرك أنها ستكون سبب خلاصه من كابوس جاثم على صدره طوال 30 عاماً وأكثر، وهذا الذي حدث، فباتي زوجة إيريك ومنذ ليلة زواجهما أدركت أن زوجها الذي أحبته يعيش عالماً مليئاً بالسواد لا يفصح عنه لأحد، فقررت انتشاله من هذا العالم، ولجأت إلى أقرب أصدقائه الضابط البريطاني السابق فينلاي.

الفيلم يصوّر زمنين: ما بين أحداث نهاية الحرب العالمية الثانية، وما بعدها وتأثيرها في الذين شاركوا فيها، والمكان هذه المرة تايلاند التي كانت القوات اليابانية تسيطر على مناطق محددة فيها. ويتلخص الحدث بمجموعة من الضباط البريطانيين وقعوا أسرى حرب في يد القوات اليابانية، التي حوّلتهم إلى عمال في بناء السكة الحديد التي تربط بين تايلاند وبورما، وصنفتهم حسب تخصصاتهم، وليس رتبهم، والدليل أن قائدهم كان يعمل حفاراً للصخر، ويتعرض لكل أنواع الضرب والتنكيل.

إيريك ورفاقه المهندسون من الضباط، كانوا في تصنيف أعلى درجة، لكنه لا يخلو من الإذلال، ولخبرتهم في الاتصالات واللاسلكي، قرروا أن يصنعوا «راديو» كي يستمعوا إلى الأخبار التي انقطعوا عنها، والهدف كان في نشر أي خبر سار على الأسرى، ونجحوا في المهمة، ونشر الخبر حماسة بين الأسرى، جعلتهم ينتظرون وصول قوات بلادهم لانتشالهم، لكن الفرحة لم تدم، خصوصاً بعد أن تم كشف الراديو الذي اعتقده اليابانيون وسيلة اتصال مع أعدائهم لإعلامهم بمكانهم والانقضاض عليهم.

هذه القصة لم تعرفها باتي من زوجها إيريك، بل من صديقه فينلاي، وكل ضابط من المشاركين في الفيلم لديه قصة مع السكة الحديد، تعود الكاميرا بخاصية «الفلاش باك» لنراهم شباباً، حلمهم المشترك هو الانتصار على هتلر.

لكن حياة باتي وإيريك لها حضورها أيضاً، فهي تظهر كم هي صبورة على تقلبات مزاجه، وكوابيسه التي تغزو نومه، وصراخه المبكي الذي يجعلها تتألم، وعدم ثقتها بنفسها بسبب رفض زوجها البوح لها، لكنها تصمت عندما يقول فينلاي لها «لا يمكن البوح بكل شيء أثناء الحرب، خصوصاً إذا انتهكت كرامتنا فيها».

تحاول الزوجة أن تصل إلى ذكريات الزوج، فتعود إلى فينلاي مرة أخرى ليكمل حكاية إيريك التي يبوح بها بينه وبين نفسه خلال كوابيسه، عبر مشاهد مركبة لكنها متسلسلة، ولا تشعر المشاهد بالتشتت.

الحياة وقت الأسر، تلخصها مشاهد العودة بالذاكرة التي كانت على لسان فينلاي وكوابيس إيريك، حيث منطقة معزولة، أمام جبل كبير في تايلاند، يقوم عدد مهول من العمال (أسرى حرب) بتكسير الحجارة، لهدف بناء سكة حديد، في المقابل توجد مجموعة من الضباط المهندسين يستمعون الى إذاعة الـ«بي بي سي»، وصل الخبر عن طريق واشٍ إلى اليابانيين، فقرر عقابهم، وبعد أول تعذيب، تقدم إيريك وأقر بأنه الفاعل لينقذ المجموعة التي لم تنسَ هذا الموقف. يظهر الضابط الياباني الذي يقدم نفسه كمترجم (ناغازا)، نظراته المريبة إلى لوماكس تنذر بوقوع كارثة لها علاقة بطريقة تعذيبه، ما يقوله إيريك لا تتم ترجمته للضباط المسؤولين، فيتولى المترجم تعذيبه، فيتساءل إيريك بينه وبين نفسه هل المترجم يحق له التعذيب؟ ليتأكد أنه من ضمن قوات الجيش الياباني حتى لو لم يقرّ بذلك، وهذا الذي حدث عندما انتصرت قوات التحالف، ووصلت القوات البريطانية إلى المكان، فتقدم وقال إنه مترجم وليس ضابطاً في الجيش فنفذ من محاكمته، وهذا التفصيل جعل إيريك يعيش في دوامة القهر والذكريات الموجعة طوال حياته، فالعدل عندما جاء لم ينصفه.

تفاصيل التعذيب المباشر لم تكن واضحة، لكن يستطيع المشاهد تخيل ما كان يحدث لإيريك لوماكس، وفي مشهد ضمه وجلاده قال: «أنت مصرّ على روايتك ولا تترجم روايتي، وفي هذا الوقت تقوم قوات الولايات المتحدة الأميركية بقصف مدينتك وقتل عائلتك، وأنت تقف هنا تعذب شخصاً لم يكن يريد سوى أن يسمع أخبار بلاده»، هذا الحوار جاء بعد أن قال له ناغازا: «نحن اليابانيون لا نستسلم، نفضل الانتحار على أن نقع أسرى حرب، نحن رجال وأنتم لا».

تنتهي العودة للماضي فجأة، ليعيش المشاهد حاضر إيريك لوماكس ومن حوله، فقد وجد فينلاي أخيراً المخرج، من خلال خبر مفاده أن ناغازا لايزال على قيد الحياة ويعمل دليلاً سياحياً في المكان ذاته الذي كان يجلد فيه أسرى الحرب، يقطع الخبر من الصحيفة واضعاً إلى جانبه خنجراً، ويسلمه لإيريك لوماكس، ويقرر الذهاب إلى منطقة أخرى، فيودعه باتي ولوماكس أمام محطة القطار، فيقترب فينلاي من باتي ويقول لها: «عندما أصل سأرسل رسالة إلى لوماكس لن يستطيع تجاهلها»، وقد وصلت الرسالة فعلاً، ففينلاي انتحر، وفهم لوماكس الرسالة، أنه اذا لم يواجه جلاده ستكون نهايته مثله؛ فقرر الذهاب لقتل ناغازا.

المواجهة بين إيريك لوماكس وناغازا، أوحت بأنهما ينتظران هذا طوال سنوات، لكن الجلاد هذه المرة أقر بفعلته، وأن حياته الى هذه اللحظة كانت عذاباً، خصوصاً عندما كذب، وقال إنه فقط يعمل مترجماً، رغم القتل والتعذيب الذي مارسه: «دفنت بيدي كثيرين ممن عذبتهم، والجلاد لا يعد ضحاياه». كانت نية إيريك لوماكس قتل المترجم الجلاد، لكنه أراد أن يجعله يعيش قليلاً من الرعب الذي زرعه في نفسه، حاول تعذيبه ففشل، حاول تقييده، وفشل أيضاً، زج به في القفص الصغير الذي كانوا يزجون فيه أسرى الحرب، وأغلق الباب عليه، استسلم ناغازا له، وطلب منه تخليصه، وعندما أقدم إيريك لوماكس على قتله، أغمض ناغازا عينيه، وفتحهما وقد وجد حبل القفص قد انقطع بالخنجر الذي كان من المفترض أن يغرس في عنقه.

هنا تحرر لوماكس، وشعر بحريته أكثر من أي وقت مضى، وعاد إلى زوجته باتي، مليئاً بالحب والحياة، وزاد على ذلك رسالة وصلته من ناغازا، يقول فيها: «أنا أعتذر، وسامحني»، وكان لهذه الرسالة أثرها في حياة لوماكس الذي توفي قبل عامين عن عمر يناهز 93 عاماً، وكأن الضحية تنتظر كلمة «آسف» فقط.

الأكثر مشاركة