الفيلم يدخل إلى قضايا مهمة ومؤثرة في المجتمع المصري، من خلال حكاية صبي يعيش تحولاً عميقاً في حياته. أرشيفية من المصدر

طفل يختبر تحوّلات الحياة

المعضلة في فيلم عمرو سلامة «لا مؤاخذة» ليست كما روّج لها أنها تتعلق بالطائفية فحسب، بل تتعلق بمشكلات عدة يعانيها المجتمع المصري، وضعت جميعها على كاهل طفل اسمه هاني عبدالله بيتر، اضطر إلى الانتقال إلى مدرسة حكومية بعد وفاة والده، ومعه اضطر أيضاً الى أن لا يكون عبئاً على كاهل والدته، وهو الذي عاش حياة الترف في مدرسة أجنبية لا تسأل على ما يبدو عن الهوية والديانة، وكان له حضوره في الذكاء والعلاقات الاجتماعية، فانقلبت الموازين معه، حتى وصل فيه الأمر الى الاعتذار الى (يسوع) كل ليلة بسبب نكرانه له في مواقف عدة كي يستطيع أن يعيش. دعاؤه المستتر بينه وبين من يؤمن به، كان موجعاً ليس لكلماته بل للبعد الذي أراد المخرج إيصاله، فمن لا يعيش في مصر وليس مصرياً لن تصله الرسالة بشكلها البريء، بل سيشعر أن ثمة مشكلة حقيقية لها علاقة بالاضطهاد الإنساني للطائفة القبطية.

الفيلم الذي يُعرض حالياً في دور السينما المحلية، حمل معه ممثلين عابرين على نصوصه ومشاهده، مثل كندة علوش، وهاني عادل، وسامية أسعد، تركوا بصمتهم التي تجانست مع معاناة تلاميذ مدرسة «عمر بن الخطاب»، الذين قدموا دورهم بحرفية تبشر بمستقبل مهني في مجال السينما في المستقبل.

الحكاية نقلت عبر صوت الفنان أحمد حلمي، الذي بدأ بتعريف الجمهور الى هاني عبدالله بيتر، وصوت حلمي جاء كضيف شرف في الفيلم، مثلما حضرت هند صبري، وآسر ياسين، كضيفي شرف أيضاً، لتعزيز علاقتهما الفنية مع مخرج العمل، ولدعم هذا النوع من القصص التي تعتبر جريئة وجديدة في المجتمع المصري، صوته لم يخلُ من خفة ظله المعتادة، يعرف الناس بالطفل النظيف والمرتب الذي يرتاد مدرسة دولية، يحب لعب (السكواتش)، ولديه صفحة على «فيس بوك»، خفيف الظل، علاقته مع والده مدير بنك أجنبي مميزة، أما والدته فهي تهوى الموسيقى والعزف على التشيلو. كل هذه الصفات أراد المخرج سلامة الذي كتب الفيلم أيضاً أن يوصلها بالمعنى المتعارف عليه اجتماعياً (ابن ناس)، هذا المعنى الذي وقف أمامه هاني الذي خسر كل هذا مع وفاة والده وتحكّم أعمامه بماله، وقال: «ماذا يعني ابن ناس، ودول يبقوا إيه؟» في إشارة الى زملائه في الصف الجديد في المدرسة الحكومية التي ارتادها، واسمها مدرسة «عمر بن الخطاب».

حتى هذه المدرسة لها قصة تشبه قصة هاني، فقد بحث عنها عبر «غوغل» قبل ارتيادها، ليبني علاقة معها ليتقبل الواقع الجديد، فوجد أنها كانت قصراً لأحد الباشاوات تبرع فيها للدولة وحوّلها إلى مدرسة حملت اسمه، وبعد ثورة الضباط الأحرار، حولوها إلى مدرسة حكومية مجانية وغيروا اسمها الى «عمر بن الخطاب»، ولم تعد قصراً إلا بشكلها الخارجي، مثل هاني الذي يوحي شكله فقط في العز، لكنه من الداخل كسر وتفتت، مثل دروج الفصل وحيطانه المتشققة، لكنه والمدرسة ثبتا على الأقل لتحدي كل شيء يعكر صفو وجودهما على الأرض، هذه الأرض التي تحمل كل الأطياف والجنسيات والديانات.

كل شيء كان من الممكن أن يكون عادياً في حياة هاني، على الرغم من الاختلاف الاجتماعي الذي بات واقعاً عليه، ومنذ اللحظة الأولى شعر بغربته، التي زادت في حيرته عندما أمرته والدته أن لا يصادق أحداً ولا يتحدث بالدين، لكنه أصر على تحدي واقعه الجديد على أن لا يثقل كاهل والدته التي بدأت بإجراء الهجرة الى كندا، وصل طالباً نظيفاً مرتباً، يتكلم الانجليزية أفضل من أستاذ اللغة الانجليزية، عبقري في العلوم، لكن لا أحد يراه، اثناء الفرصة كشف هاني مجتمعاً كاملاً يعيش فيه، في إحدى الغرف توجد مجموعة من الطلاب المضطهدين اجتماعياً، يعرفهم عليه طالب ينتقي كلمات مثقفة ويرتدي النظارات، ويقتبس جملاً من كتاب وأدباء، يعرفه عليهم «هذا منبوذ لأنه الأول في المدرسة، فلا مكان للأذكياء، وهذا لأنه يصدر حركات لا إرادية تجعله عرضة للسخرية، أما هذا فهو أشدهم نبذاً لأنه جاء مع والدته الى المدرسة لتقديم شكوى»، ومشى هاني مع الطالب المثقف ووجد غرفة أخرى فيها مجموعة من الطلاب، وسأل هذه المرة صديقه مؤمن «مين دول؟»، لتكون الاجابة كالصاعقة «دول المسيحيين».

وقتها قرر أن لا يتحدث عن دينه، ودعم قراره أستاذ اللغة العربية والاجتماعية والدين عندما طلب من التلاميذ التعريف عن أنفسهم، هنا جاء صوت الراوي أحمد حلمي «هو عايز يعرف عشان يحدد علاقة مصالحه حسب وظيفة الأب»، لتكون الاجابة مسبوقة دائماً بـ (لا مؤاخذة) «والدي سباك، خباز، نجار، حلاق، الخ...» إلى أن جاء دور هاني «لا مؤاخذة والدي مدير بنك»، فثار الطلاب واعتبروا أن هاني يستهزئ بهم بسبب وظائف آبائهم، لكن هاني اعتقد أن (لا مؤاخذة) يجب أن تكون قرينة بالوظيفة، كما قالها الطلاب من قبله، فابتسم الأستاذ وعامله بلطف للمصلحة المستقبلية التي يريدها لاحقاً، وأصبحت جملة (لا مؤاخذة) صفة ملاصقة لهاني.

يأتي السؤال الثاني «أسماؤكم بالكامل»، ويأتي صوت حلمي مرة أخرى «هو عايز يعرف دينهم»، فجاء دور هاني «هاني عبدالله بي»، ليقطع الأستاذ تكملة كلمة بيتر، ويقول: «الحمد لله كلنا مسلمين»، ليأتي بعدها موعد الصلاة فيصلي هاني مع الطلاب جماعة.

المعضلة في المدرسة هي معضلة أخلاق المعلمين بالدرجة الأولى، والألفاظ التي يستخدمونها مع طلابهم، «حفشخكم، حعلقكم، حودّيكم بستين داهية»، كلها مصطلحات جديدة على حياة هاني، تبدأ المعركة بين هاني والمعلمين من جهة، وبين هاني والطالب علي أقوى طالب في الصف، الذي يستهزئ بكل شيء بدءاً من الطابور ومروراً بأساتذته وزملائه، وليس انتهاءً بالتسلط على مكان صديق هاني (مؤمن)، في حصة العلوم مع مس نيللي، نموذج المعلمة المنفتحة في آرائها ومنظرها الخارجي، والتي كانت عرضة في النهاية لتحرش جنسي من قبل طلاب آخرين أبناء مجرمين أصحاب سوابق، فاضطرت الى أن ترحل من المدرسة مع أنها كانت الأقرب الى قلب هاني، خصوصاً بعد أن أعطته فرصة ليبرهن على عبقريته فصنع طائرة ونجح، لكنه لم يلقَ أي تشجيع من أساتذته والناظر وزملائه.

كان يريد ان يفعل أي شيء ليصبح محبوباً، فقرر أن يشارك في مسابقة الإنشاد الديني، لأن من يفوز بها يصبح معفى من ضربات الطلاب وتنظيف الحمامات والساحات في المدرسة.

وبالفعل فاز في المسابقة، تفاصيل كثيرة في الفيلم، التي لا تعرف شيئاً عنها والدة هاني، التي ظهرت في البداية أنها لا دينية، حيث لا تذهب الى الكنيسة مع زوجها وابنها، ولا ترتدي الصليب، وبعد أن توفي زوجها أزالت كل الصلبان والتماثيل التي تخص السيدة مريم العذراء، واكتفت بصليب في غرفة ابنها لحبه له، لكن ومن زيارة واحدة الى الكنيسة مع ابنها نزولاً عند رغبته، عادت الى البيت وأخرجت ما أخفته في الصناديق، ووجدت من بين الأغراض براويز لآيات قرآنية، كان هاني قد جلبها من أصدقائه المسلمين في المدرسة السابقة ليعلقها في غرفته، عندما صار صديقه (مؤمن) يزوره في المنزل.

الاحساس بفقدان الهوية والتجانس مع المجتمع حتى على حساب الفكرة الخاصة، كانت مبالغة جداً من قبل سلامة، لكن الذكاء أن اختار طفلاً لا يعرف أساساً ماهية كل هذه الأمور، لكنه يتصرف على سجيته، كي يعيش، التي تكرر إحساسها أكثر من مرة في الفيلم. وجاءت لحظة الحقيقة، قررت فيها الأم ارتداء الصليب، والذهاب مع ابنها الى المدرسة بعد مشاجرة بينه وبين علي، حاول هاني إقناع أمه أن لا تأتي لكن دون فائدة، أصبح (هاني لا مؤاخذة) بعد ذلك (هاني المسيحي)، وفي قدرة قادر أصبح يعامل بشكل جيد من الجميع الذي يريد أن يثبت له ولوالدته أن لا طائفية في المدرسة، لكن صديق هاني (مؤمن) رحل عنه، وأصبح منبوذاً وحيداً، ومع عقله الطفولي قرر أن ينتقم من (علي) السبب وراء كل مصائبه، حسب احساسه، فتعلم الجودو، وانتصر عليه في شهر رمضان عندما استفزه وأكل وجبته أمام الصف، واكتشف المشاهد قبل ذلك أن (علي) يكون ابن حارس المدرسة الذي يستهزئ به الجميع، فالجميع اذاً لديهم سر لا يريدون الإفصاح عنه، تعود والدة هاني الى المدرسة مرة أخرى لتشكو علي، فتلاحظ أن علي مصاب ايضاً، فتطلب من المدير أن يعاقبهما سوية، وفي مشهد نهائي، نرى علي وهاني وهما يقفان ووجهاهما الى الحائط، معاقبان، فيظهر الطالب المثقف مرة أخرى ويقدم عظته، فينال ضربة من خلفه من قبل أستاذه، فيضحك هاني وعلي سوية. هذه الضحكة هي خلاصة الحكاية، للتأكيد أن الأشياء التي تجمع بين البشر أكثر بكثير من الأشياء التي تفرق بينهم، لكن الأهم البحث عنها دون الوقوف أمام الأسئلة المتعلقة بـ«من أين أنت وما هي ديانتك؟».

ينتهي الفيلم وهاني ووالدته في مكتب الهجرة والجوازات الخاص بالسفارة الكندية، تسأل المسؤولة والدة هاني «هل سبب الهجرة أنك تشعرين باضطهاد بسبب دينك؟»، وقبل أن ترد، يأتي صوت هاني «لا نشعر بالاضطهاد»، فيركبان السيارة وأغنية شيرين «مشاعر»، وصوت هاني وهو يقول: «لا أريد أن أترك مصر».

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط .

الأكثر مشاركة