«ابن لا أحد».. البشر أكثر وحشية من الغابة
«ابن لا أحد» للمخرج الصربي فيك رسوموفيتش الذي أطل على مشاهدي أفلام الدورة الثامنة من مهرجان أبوظبي السينمائي، ضمن مسابقة آفاق جديدة، بدأ حكايته مع أن أحداث الفيلم مأخوذة من حادثة واقعية، هذه الحادثة لم تكن يوماً سوى قصة كنا نتخيل أنها أسطورة عن فتى الأدغال الذي اعتنت به ذئبة، لكن تفاصيل الفيلم تجعلك تتأنى، فمن المنعش أن تتحول الأسطورة الى حقيقة، حتى لو كانت مؤلمة، فالمشهد يبدأ مع صيادين في الغابة لا يلاحقون غزالاً هذه المرة، بل طفلاً يمشي على أربع، طويل الشعر، يهرب منهم كأي حيوان مطارد، يقبضون عليه في النهاية، والحدث يبدأ في عام 1988 في غابة في البوسنة والهرسك.
وبعد تسليمة للدائرة المحلية المختصة تقرر إرساله إلى دار للأيتام، خلالها وأثناء تسجيله تقوم موظفة باختيار اسمه (هارس بورتشكا) وهو الاسم الذي سيترتب عليه مصير طفل الغابة.
لا شك أن المشاهد كانت مطولة جداً في تعريف المشاهد على الطفل ذي السلوك الحيواني من حيث المشية وطريقة الأكل والتنمر، اضافة الى أنه لا يفقه الكلام بل يعبر عن غضبه وسعادته بصوت الذئبة، الطفل أبدع في تجسيد الشخصية، كأنه محترف، لكن المبالغة كانت بتكثيف حالاته التي اصبحت بشكل اوتوماتيكي معروفة لدى المتلقي بل ومتوقعة، وإلى أن وصل الى حبكة الفيلم قد مضى الكثير على أحداثه.
ظهور الأستاذ الطيب في الدار، الذي كان يراعيه اضافة الى الشاب زيكا الذي قرر الاندماج معه والدفاع عنه أمام اقرانه في الدار المتربصين به، زيكا شخصية محورية في الفيلم، فهو الذي أطلق اختصارا على اسم الطفل وسماه «بوتشك» وهو الاسم الذي اصبح معتمداً للجميع، زيكا يعيش في الدار على الرغم من أن والده على قيد الحياة، لكن الوالد من الواضح أنه يستغله، وفي كل مرة يعود الى الدار مع حلم جديد بمغادرته، اعتنى بـ«بوتشك» كثيراً، بل كان حريصاً على أن يعلمه خطوات الحياة البشرية الأولى، وكان ينتبه لما يحبه كالضوء والخيال، بدأ بوتشك يندمج رويداً رويداً، وتعلقه بزيكا لم يكن بشرياً بقدر ما هو اشبه بتعلق كلب بصديقه الإنسان، حتى طريقة مشيته معه تدل على ذلك وهو ينتظر من زيكا أن يربت على رأسه، في المقابل يوجد الأستاذ في الدار ومعلمة الرياضيات اللذان بدآ بدمج بوتشك في الصفوف الدراسية، في هذا الوقت يختفي زيكا من حياة بوتشك، لأنه وثق بوالده مرة أخرى.
تفاصيل غياب زيكا عن حياة بوتشك كان لها الأثر النفسي الشديد، لكن بدعم من الدار استطاع بوتشك أن يصبح محبوباً من قبل الجميع، خصوصاً حبيبة زيكا التي اصبحت مستقبلاً تعمل في ناد ليلي.
تمر الأحداث بشكل بطيء الى أن وصلت الى المشهد الذي أنذر بالحبكة الثانية تقريباً في الفيلم عندما أنشد بوتشك مع اقرانه نشيد يوغسلافيا الاشتراكية.
وقد مر سنوات على وجود بوتشك في الدار، وبدء الحرب الأهلية، حينها علم بوتشك بالمصادفة، وهو لا يدرك معنى أنه مسلم، من خلال لاجئين صربيين في الدار أدركا من اسمه الذي ليس له علاقة به أنه ينتمي الى البوسنة والهرسك، لذلك يجب مضايقته بل إجباره على ترك الدار، هنا تنقل الموازين كلها، ويصبح بالفعل بوتشك طفل الغابة مسلم الديانة بالنسبة للجميع، باستثناء استاذه الذي حاول اخفاءه في منزله لكنه لم يسيطر على عقل بوتشك الذي لا يحتمل حبسه، فتقرر الدار ارساله الى دار في البوسنة والهرسك، وعند محطة القطار يبكي الاستاذ لأنه يدرك تماماً ان لا علاقة لبوتشك بكل ما يحدث، وأن اسمه الذي اختارته موظفة السجل المدني هو السبب في مصيره المقبل.
الفكرة في الفيلم عبقرية وقريبة جداً الى الحس الإنساني مع أن تجسيدها في كثير من المطارح لم يكن على قدر عمقها، فتاهت بين المشاهد المكتظة والمطولة، ويجد بوتشك نفسه في النهاية بعد أن هرب من الدار الجديدة، في قبضة أفراد جيش البوسنة والهرسك، الذين اصطحبوه معهم بعد أن علموا اسمه فقرروا تدريبه على القتال والقتل، وفي أثناء المعركة والمواجهة، فقد بوتشك مسؤوله الذي مات أمامه وتناثر دمه على وجهه الصغير غير المدرك لكل ما يحدث، وهذا الفقدان أعاد الى مشاعره فقدان زيكا الذي انتحر هو الآخر بعد خيبته الأخيرة من ابيه، هنا قرر بوتشك الهرب من الثكنة وقد شعر أن المكان قريب جداً من الغابة التي كان يعيش فيها.
يدرك المشاهد في النهاية أنه أمام تساؤل كبير من الأكثر وحشية البشر أم حيوانات الغابة؟ خصوصاً في المشهد الذي انتهى الفيلم به مع بوتشك وهو ملقى على الثلج ومن بعيد تظهر الذئبة الأم التي اعتنت به، لكنها هذه المرة لم تقترب منه، فقد شعرت بمشاعره الإنسانية التي نمت، وأدركت أنه بات يعرف القتل.
إننا أمام حكاية تتساءل عن المعنى المطلق للوحشية: هل هو صنيعة طبيعة أم صنيعة بشر؟