جدار بين العشوائيات والمتنفذين

«إيثاكا»، «عين شمس»، «حاوي»، «الشتا اللي فات»، عناوين أفلام أنذرت بوجود مخرج خاص اسمه إبراهيم البطوط، لذلك كان الترقب حاضراً بقوة منذ اعلان عرض فيلمه «القط»، لأول مرة دولياً من بوابة الدورة الثامنة من مهرجان أبوظبي السينمائي، ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، لكن الذي حدث بعد انتهاء الفيلم من ردود الفعل كان كفيلاً بترجمة أن ما قدمه البطوط أخيراً لم يرتق الى سابق أفلامه.

موت

طريقة موت الحاج حنفي، كانت عبارة عن اقتياده بعد عودته من العبارة التي كان فيها متوتراً وخائفاً من القط، ورميه في منطقة نائية، واعطائه حقناً تريه الموت الذي رآه الأطفال قبله، يريدون أن يشعر بكل لحظة كان الطفل فيها خائفاً من الحقنة التي لم يدرك وقتها أنها لتنويمه وبيع أعضائه. بعد ذلك يقرر القط اصطحاب الحاج حنفي الى القوة العليا في الفيلم، ويرفض قتله، لكن شخصية اوزاريس تذكره بابنته، وهذه الذكرى تكون طلقة الموت على رأس الحاج حنفي، وتكون عبارة خرجت من فم شخصية اوزاريس أن ما فعلته يا قط هو الصواب، يبتعد القط عنهما، وفي قارب يلقي مسدسه في النيل، في اشارة إلى أنه لا قتل بعد اللحظة. الفيلم مملوء بالرموز الفلسفية، التي تشبه الى حد كبير وقوف شخص أمام لوحة تشكيلية لا يفهمها سوى الرسام نفسه.

فالفيلم اذا لم تكن تعرف قصة «إيزيس» ربة القمر لدى القدماء المصريين، من الصعب أن تصل إلى ماهيته، لكن هذا لا يعني أن عين البطوط وطريقة ادارته الكاميرا كان لافتاً وجميلاً وخاصاً، يوازيه بالمستوى نفسه عدم إدارته الممثلين بشكل كافٍ، فالصورة تفوقت على الأداء، الذي تباين بين ممثل وممثل، كان اضعفهم عمر واكد، مع كل التقدير لأداء فاروق الفيشاوي.

وللحديث عن الفيلم يجب الحديث بداية عن اسطورة «ايزيس»، التي كان يرمز لها بامرأة على حاجب جبين قرص القمر، عبدها المصريون القدماء والبطالمة والرومان، وكبر صيتها عندما أعادت الحياة الى جثة زوجها أوزاريس بعد أن تم تقطيعه ارباً من قبل «ست»، في ذلك الوقت كانت تربي ابنها حوس، الذي كبر وصار قادراً على الانتقام من قاتل أبيه «ست». فاروق الفيشاوي أدى دور أوزاريس، وبناء على الأسطورة فـ«حورس» هو عمرو واكد. اذا هذه الأسطورة التي بنيت عليها قصة الفيلم التي أرادت أن تكون قضيتها هي بيع الأعضاء، من خلال الحاج فتحي، الذي يستغل العشوائيات ويقوم عن طريق عصابته بخطف الأطفال واستئصال أعضائهم، من جهة أخرى، يقوم بفحص الفتيات صغيرات السنّ اذا كن عذراوات، ويقوم ببيعهن وبتزويجهن لكبار السن من دول مختلفة. في هذه الاثناء تظهر شخصية القط، الذي خطفت ابنته هو الآخر ولا يعرف مصيرها، فقرر الانتقام بطريقته من كل شخص له علاقة بخطف الأطفال وبيعهم وتقطيع اشلائهم، وينجح في كل مهمة، حتى إنه يصل إلى الحاج فتحي شخصياً، لكنه لا يقتله، ليعرف المشاهد بعد ذلك أنه يتأنى لمعرفة من خلفه، وأن كل من قتلهم هو يعرف كبيرهم وهو نفسه الحاج فتحي.

الكاميرا تأخذ المشاهد في أزقة حواري مصر التي يفصلها عن الحياة التي يسيطر عليها الفاسد والمتسلط جدار أشبه بالجدار العازل في فلسطين، اللقطات غالبيتها من فوق الأسطح، لتقترب الرؤية أكثر الى هؤلاء المهمشين، والمستغلين من قبل المجتمع الغني، حتى في أكباد أطفالهم وقلوبهم، مشاهد المداخل الضيقة تبعث بشعور الحزن العمي على هؤلاء، وانتقال الكاميرا الى الجانب الآخر من الحياة يجعل من المتلقي أدرك للكارثة الانسانية والاجتماعية والطبقية في مصر.

هذا العالم المهمش قرر القط أن يكون عونا لهم ليس لحسن اخلاقه بقدر ما أنه ذاق مرارة فقدان ابنته، وتشتت ذهن ابنه الذي يشتاق إلى شقيقته، ومشاعر الغضب التي سيطرت عليه، وجعلت منه مجرماً هو وشقيقه الملقب بالغجري، الذي وصل فيه إلى حد قتل كل من يعرفهم كي لا يهدد مصيرهم. اللقطات مستمرة حتى في ما يخص القوة العليا التي جسدها الفيشاوي، على هيئة رجل يرتدي ما يشبه رداء القصيصين، شخصية تكاد تكون خيالية، فهو يعلم كل شيء، من خلال مراقبته للعالم، هو جسد دور أسطورة الإله اوزاريس، يراقب القط عن بعد، إلى حين قرر اللقاء بينهما، وفي معبد قديم يدرك القط أن كل تحركاته مكشوفة، ويقنعه صاحب القوة أنه يدعمه، لكن عليه أن يقتل الحاج حنفي اساس البلاء، وتبدأ حكاية تتبع حنفي واختيار الموت الذي يناسبه هو هاجس القط، بعد أن يحصل على أموال طائلة من قبل الشخص الغامض.

أثناء ذلك من الجميل المرور بمشهد يعتبر الأجمل في الفيلم، من حيث قيمته الفنية وحتى المعنى المراد منه، فيظهر فيه فاروق الفيشاوي وهو داخل معبد يهودي، وصوت الترانيم الصادحة من المكان، ليخرج منه ويرى نفسه في كنيسة مسيحية، تؤدي فيها الطقوس الدينية مع الصلوات، وبالمشهد نفسه يخرج الى جامع صغير يصدح منه تكبيرات الصلاة، وينتهي بوجوده في صالة تعج بالراقصين والمبتهجين، مشهد جميل وعلى درجة عالية من الصناعة، يوصل رسالة أن كل الأديان التي اختارت أن يكون التطرف عنوانها هي مؤقتة، وفي النهاية سيبحث البشر عن مكان خلاص من كل هذا التطرف.

الأكثر مشاركة