«نظرية كل شيء».. إنها الفيزياء بمذاق إنساني

عندما تقرر السينما أن تدخلك إلى عالم الفيزياء، فإنك ترى نفسك قد أصبحت في معادلة فيها الكثير من الأرقام، عادة لن تعيرها الاهتمام، فالنظريات التي غيرت الكون من تخصص العلماء، وأنت كفرد يعيش في هذا الكون مجرد مستفيد من سنوات أبحاث علمية تكاد تعرف من هم اصحابها، لكن في فيلم «نظرية كل شيء»، الذي افتتح الدورة الـ11 من مهرجان دبي السينمائي الدولي، أول من أمس، للمخرج جيمس مارش، تتغير المعادلة وتصبح الأرقام والاختبارات جزءاً من إنسانيتك، ومن روحك، وحتى في تقرير حالتك النفسية، خصوصاً أنك أمام قصة العالم الفيزيائي ستيفن هوكينج، الذي لايزال على قيد الحياة، وحرص على متابعة جزء من تسلسل تصوير الفيلم، الذي يتحدث عن حياته، هو الذي تعدى الـ70 من عمره، بعد أن أصر طبيبه بعد اكتشاف مرضه، وهو لايزال شاباً عشرينياً، أن حياته لن تستمر أكثر من عامين.

حاسوب خاص

مع تطور مرضه، وبسبب إجرائه عملية في القصبة الهوائية بسبب التهابها، أصبح هوكينج غير قادر على النطق، أو تحريك ذراعه أو قدمه، أي أصبح غير قادر على الحركة تماماً، فقامت شركة (إنتل) للمعالجات والنظم الرقمية بتطوير نظام حاسوب خاص متصل بكرسيه، يستطيع هوكينج من خلاله التحكم في حركة كرسيه، والتخاطب باستخدام صوت مولد إلكتروني، وإصدار الأوامر عن طريق حركة عينيه ورأسه، حيث يقوم بإخراج بيانات مخزنة مسبقاً في الجهاز، تمثل كلمات وأوامر.

الفيلم الذي أدى دور ستيفين هوكينج فيه الفنان آيدي ريدمان، وأدت دور زوجته جاين هوكينج، التي كان لها الأثر الكبير في استمرار حياته إلى اللحظة، الفنانة فيليستي جونز، استطاع ولمدة 123 دقيقة ألا يشعرك بالملل، لأنه ببساطة يتحدث عن الحياة.

الجميل في الفيلم أنه مزج بين الحب في العلاقة التي نشأت بين ستيفن وجاين، التي التقت معه في حفلة خاصة بالطلاب الجامعيين العلماء، الذين يسعون لتطوير نظريات الكون منذ زمن آينشتاين وقبله، استطاع ستيفن على الرغم من هيئته المتواضعة أن يلفت انتباه الجميلة جاين، واستطاع أن يحبها ويجعلها تحبه. يسلط الفيلم الضوء على عبقرية ستيفن، وهو الذي يوصف بأعظم عقل إنساني لايزال على قيد الحياة، منذ البداية يلاحظ المشاهد أنه أمام شخصية استثنائية، وعلى الرغم من ارتباطه بالعلم، إلا أنه يحمل الكثير من خفة الظل التي يلجأ إليها عندما لا يفهمه أحد.

علاقة الحب والتضحية والشغف، التي تمثلت في شخصية جاين هي ملح حكاية معقدة، أساسها معادلات ونظريات وبوح كتابة كبير وطباشير كثيرة، أرقام وحسابات وأحجيات وحلول دائمة من قبل ستيفن، الذي يثير إعجاب أستاذه الجامعي، الذي يقرر أن يظل ملازماً له قبل انتكاسته وبعدها، حيث أصيب ستيفن ودون سابق إنذار بمرض العصب الحركي، وهو في عمر 21 عاماً، الغريب عند تشخيص هذا المرض أن طبيبه أعلن أنه لن يعيش أكثر من عامين، وبناء عليه رضخ ستيفن لهذا القرار، وبدأ بالعزلة إلى أن اخترقتها جاين طالبة الفنون والأدب في كامبريدج، وهي حبيبته، وقررت الوقوف إلى جانبه، حتى تزوجته وأنجبت منه ثلاثة أطفال، التحدي في الإعاقة كان يحتاج إلى شغف منحته إياه جاين، حتى لو انتزعت هذه المشاعر في سنوات الزواج، لأنه ومع استمرار ستيفن في الحياة يفقد شيئاً من إحساسه الحركي، يؤثر في طريقة تعبيره وحركته بشكل عام.

عندما شُخِّص المرض لستيفن، سأل طبيبه: «هل سيتأثر الدماغ؟»، فكان الجواب لا، والقدر وحده هو الذي جعل أهم عالم فيزياء في العالم مُقعداً على كرسي، وتسبح النظريات في دماغه، ويترجمها من خلال حركة عيونه بعد أن فقد النطق نهائياً، واستعان بحاسوب ناطق اعترضت عليه زوجته بمزحة «كان يجب أن يكون النطق ليس أميركياً»، إشارة إلى أن الروبوت في الجهاز أميركي.

وللحديث بشكل دقيق عن حالة ستيفن المرضية، والذي قدم للعالم أبحاثاً في نظرية علم الكون، وأبحاثاً في العلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية، إضافة إلى دراسات في التسلسل الزمني «هو مرض مميت لا علاج له، يفقد فيه الشخص، نتيجة عدم استجابة أعضاء الجسم لأوامر الدماغ، إحساسه وحركته ونطقه وتنفسه» وقد أعلن الأطباء حينها أنه لن يعيش أكثر من سنتين، ومع ذلك جاهد المرض حتى تجاوز عمره الـ72 عاماً، وهو أمد أطول مما توقعه الأطباء.

أداء الممثلين في الفيلم بلا استثناء كان خاصاً وبديعاً، خصوصاً شخصية ستيفن، التي أداها الفنان الشاب البريطاني آيدي ريدمان، حيث استطاع تجسيد الشخصية بحذافيرها، من ناحية الشكل والأداء الحركي والصوت، ما أقنع ببساطة المتلقي الذي يشاهد سيرة ذاتية تتجسد على الشاشة الكبيرة لكل هذا الشغف.

قصة الفيلم لم تركز على النظريات العلمية، بل ركزت على المحيط الذي عاشه ستيفن، وكل من أثر في استمراره بالحياة، بداية من زوجته مروراً بأصدقائه، وليس انتهاء بأستاذه ومدربته على استخدام الإشارات بيرلي وايلد، التي أدت دورها إيميل واتسون، وهي الشخصية التي ظهرت في حياة ستيفن، بعد أن فقد قدرته على الكلام، وبعد أن بدأت علاقته الزوجية في الانهيار، بسبب حاجات زوجته الطبيعية لاستمرارها، وهو الذي بارك علاقة الحب التي نشأت بينها وبين عازف البيانو في الكنيسة، لأن تضحيتها فاقت مفهوم خيانته لها، وهو الشخص العملي في تفكيره، الذي يتحدى كل الأعراف والديانات في طريقة إجابته عن كل سؤال كوني. على سبيل المثال لا الحصر، عندما وجه سؤالاً إلى ستيفن: «ماذا يأتي قبل الانفجار الكبير في الكون؟»، فكانت إجابته أن هذا السؤال يشبه سؤال: «ما المكان الذي يقع شمال القطب الشمالي؟»، وكانت هذه الإجابة تلخيصاً لنظريته حول الكون المغلق والذي بلا حدود. نظرية الوقت هي التي شغلت بال ستيفن في إثباتها تارة وضحدها حيناً، نظرية يريد فيها تحدي كل ما تعتقد البشرية عن الكون، نظرية لم يكن أحد يجرؤ على الوقوف أمامها، وهو يتحدث عنها عبر حوارات جريئة من المحتمل أن تغضب الكثير.

نهاية الفيلم هي خلاصة لشخصية ستيفن، الذي تلقى دعوة لنيل وسام «الفارس» من الملكة إليزابيث ملكة إنجلترا، والذي وجه دعوة إلى زوجته «المنفصل عنها، وتعيش مع حبيبها» لتكون إلى جانبه، جاءت إليه مسرعة مع أبنائها الذين كبروا، وتصرفت معه على سجيتها، بمشهد كان يتكرر بينهما حول نظافة نظارته المتسخة دائماً، دخلا إلى الملكة، بمشهد لم تظهر فيه، وخرجا إلى باحة القصر يراقبون أطفالهما، نظر إليها وقال «انظري ماذا صنعنا سوية»، مشيراً إلى أطفاله، لكن المعنى أنه أراد أن يوصل إليها أنها هي التي أجبرته على هذه الحياة بدعمها اللامتناهي له وصبرها، وكانت النتيجة أطفالاً يكبرون. وليس إشارة إلى أن وسام الفارس الذي تلقاه من الملكة هو الإنجاز، والدليل أنه تخلى عنه، وأعلن ذلك إعلامياً.

 

 

الأكثر مشاركة