ثاني أفلام أنجلينا جولي كمخرجة يعرض في الصالات المحلية
«لا يكسر».. حين تسامح الضحية جلادها
الطبيعي أن كل المظلومين يريدون الانتقام يوماً ما، ولكن أمراً واحداً سيخلده التاريخ، هو أن يقرر المظلوم العفو عن المجرم الذي مرّ بحياته يوماً ما. أرشيفية
لم يكن غاندي وحده من سامح جلاده، بل في جعبة التاريخ على ما يبدو أناس عاشوا بيننا قرروا في لحظات مصيرية أن يسامحوا جلاديهم، والسبب هو الرغبة في الاستمرار في الحياة مع طي صفحة سوداء مليئة بالدماء وبالضربات واللكمات وامتهان حقوق الإنسان والدوس على كرامته.
هذا ما حدث فعلاً مع لويس زامبريني البطل الأولمبي الأميركي الإيطالي الأصل، الشخصية الرئيسة في فيلم «لا يكسر» الذي أخرجته أنجلينا جولي، ويعرض حالياً في دور السينما المحلية، وهو من بطولة الممثل الانجليزي جاك أونيل، والممثل الياباني تاكاماسا اشايارا، ودومانال جلوسن.
الفيلم يبدأ مع زامبريني قائداً لطائرة قاذفة خلال الحرب العالمية الثانية، مبتهجاً هو ورفاقه مع كل قذيفة يطلقونها وتصيب الهدف المحدد، يعدهم بأنه سيحول المشهد الى ما يشبه شجرة العيد (الكريسماس)، ويفي بوعده، في الوقت الذي تصاب فيه الطائرة، ويبدو الموت قريباً جداً، لكنه يتشبث بالأمل من خلال العودة الى الذاكرة عندما كان طفلاً منبوذاً من مجتمعه، وهو ابن عائلة ايطالية قررت العيش في أميركا، يتعرض لاضطهاد أقرانه، يلقبونه بالايطالي وكأنها مسبة، يهرب بعيداً عنهم ليشرب السجائر ويحتسي الخمور، مشاكس في الكنيسة، يعلن أنه غير مؤمن بها، يتلقى الضربات من أبيه الذي طفح الكيل به ومن شكاوى الجيران من ابنه، يراقب أمه وهي تدعو ربها بأن يكون عوناً له، وهو يتحداها بأن يظل عاقاً ليثب لها، لكن وبلحظة هروب دائمة في الفيلم من الشرطة ينتبه له شقيقه الأكبر «بيت»، ويقرر أن يدربه على الجري، وينصاع زامبريني له، وتستمر اللقطات معه ويراه المشاهد وقد أصبح شاباً، يحضر نفسه للتنافس في أولمبياد 1936 التي نظمها النازيون الألمان في برلين، ويفوز بها، مستذكراً كلمات شقيقه «لحظة الألم تساوي عمراً من المجد».
تعود المشاهد الى الطائرة وهي تنجو بنفسها بعد خسارة بعض الرفاق الذين طالتهم رصاصات العدو في الجو.
هي لحظة النجاة، التي قوّت إيمان زامبريني واللجوء إلى الله لإنقاذه، مع رفيقه فيل المؤمن أصلاً، والذي يستغل كل لحظات الصفو كي يصلي، خصوصاً بعد أن جاءتهم أوامر أن يتجهوا فوراً الى المحيط لانقاذ رفاق لهم طافوا هناك، لكن طائرتهم تتعرض لهجوم شرس، تودي بهم في عمق البحر، لينجو من طاقم الطائرة زامبريني وفيل وماك، يستمرون في تحدي الموت 48 يوماً يفقدون خلالها ماك الذي بدا أنانياً وهم في عرض البحر، يأكل ألواح الشوكولاتة كلها غير آبه بالخطر الذي يحدق بهم، وصلوا الى مرحلة يأكلون الطيور نيئة، والأسماك وحتى القرش الصغير، ينتظرون المطر ليملأوا قواريرهم الفارغة، يؤكد عليهم زامبريني أن عليهم الاستمرار في الحديث كي لا يفقدوا انسانيتهم ولا أعصابهم، فيتخيلوا معه والدته وهي تطبخ الأكلات الايطالية الشهيرة، ويستمر الحديث، متخللاً بعضا من لحظات اليأس، خصوصاً عندما تحلق طائرات من فوقهم ولا تسمع نداءات استغاثتهم ولا الرصاصات الملونة التي يطلقونها في السماء، يلقون صديقهم ماك الذي تحول من أناني الى مخلص، خصوصاً بعد أن قضى على قرش كاد يهجم على زامبريني، هي اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، والتي تمنح ليكون الانسان أقرب الى الخير، يلقونه في البحر، ويظل زامبريني وفيل ينتظرون مصيرهم وقد مضى على وجودهم 48 يوماً.
من المنصف قبل التطرق الى المرحلة الثانية من الفيلم المرور على الحالة الفنية المتجسدة بأداء يستحق التنافس على الأوسكار للممثل الانجليزي جاك أونيل الذي يبلغ من العمر 24 عاماً، وقدم فيه دور زامبريني.
في آخر ليلة لهما في عرض البحر يفتح زامبريني عينيه ويوقظ صديقه فيل، ويقول: «لدي خبران، أحدهما سار والآخر سيئ»، ليدرك المشاهد أن الخبر السار أنهما أصبحا قريبين من اليابسة، والخبر السيئ أنهما باتا أسيري حرب في يد القوات اليابانية، ويفترق الرفيقان.
بين البحر ومخاطره، وبين يد القوات اليابانية التي تعتبر الأسرى حسب قائدهم (ويتناب) أعداء، ويجب معاملتهم على هذا الأساس، بعيداً عن كل المواثيق التي تجبر الطرف الآسر بمعاملة الأسرى حسب القوانين الدولية، لكن في لغة الحرب والدم والانتقام، تذهب كل هذه المواثيق كغبار ينثر في الجو، الروح العدائية للقائد الياباني تجاه زامبريني تحديداً كانت طاغية من أول لقاء معه، هو يعلم الصفة التي يحملها قبل صفة ضابط وقائد طائرة، هو عدّاء أولمبي، هو نفسه الذي كان يطمح يوماً ما بأن يشارك في أولمبياد طوكيو، كان يحلم بزيارة اليابان، والتنافس مع عدّائيها الأشاوس، لكنه لم يكن يعلم أن حلمه سيتحقق لكن بصفة أسير، وهذا ما قاله صديقه «انتبه لما تتمناه عزيزي».
لقطات كثيرة لها علاقة بطريقة التعذيب، كل يوم وكل لحظة، وبطلها دوماً زامبريني، كسر الذات، والضرب، والحرمان من الأكل، والأعمال الشاقة، كلها كانت مع كل أسير في هذا المعتقل الذي اعتبر قائده بعد انتهاء الحرب مجرم حرب ملاحقاً لأنه ظل مختبئاً.
مجرم الحرب هذا تمت مكافأته بترقيته، وارساله الى مكان آخر، قبل ذلك حاول أن يستميل زامبريني لينقلب على وطنه أميركا، من خلال اعطائه فرصة في التوجه برسالة الى عائلته ليؤكد لهم أنه على قيد الحياة، وبعدها قدم المذيع له ورقة ليقرأها، كانت عبارة عن اعترافات لزامبريني على وطنه أميركا، رفض زامبريني قراءتها مع أن في ذلك خلاصه من القائد الياباني، ووعد بعدم عودته الى المعتقل، هنا تحديداً تظهر قيمة المواطنة، التي لها علاقة بالمشهد الأول الذي ظهر فيه زامبريني كطفل ايطالي منبوذ من أقرانه الأميركيين.
ظل زامبريني أسير حرب لأكثر من سنتين، وأسير القائد الياباني «واتناب» في المدة نفسها، فبعد ترقيته استلم معتقلاً أكثر قسوة، فيه منجم للفحم، نقل بعدها زامبريني ورفاقه الى هناك، بعد تقدم قوات التحالف ضد هتلر الى منطقة قريبة منهم، في هذا المشهد تحديداً وفي طريق الانتقال، تتغير النظرة تماماً في عين زامبريني، وهو يمشي الى جانب جثث مدنيين، من نساء وأطفال، تشعر بنظرته وقد تاهت، وتقييمه للأمور اختلف، وكأنه يقول «هؤلاء ليسوا أهدافنا».
يصل الى المعتقل الجديد ويقابل واتناب مرة أخرى، ويعيد عليه «أهلاً بالسجناء الجدد، التابعين لقوات أعدائنا، سنعاملهم على هذا الأساس» وتبدأ رحلة جديدة من التعذيب المقرون بكل ما له علاقة بكسر الارادة والإنسان.
تنتهي الحرب، ويختفي واتناب، ويتحدث نائبه الى السجناء، مؤكداً بداية صفحة جديدة بين البلدين، وطي صفحة الظلام، ويطلب منهم الاستحمام، يعتقدون أنه الموت الجماعي، لكنهم ينظرون الى السماء فيرون طائراتهم تحلق فوق رؤوسهم.
في هذه اللحظة، وبعد تعرض زامبريني لضربة قاسية على قدميه بأمر من واتناب، لا يفكر إلا في رؤيته، يهرع الى مكتبه فيجده خالياً، فقد هرب ببساطة، يجلس على أرض الغرفة وينظر حوله فيجد صورة لأب مع طفله. ينتهي الفيلم مع زامبريني الذي عاد بطلاً الى بلاده وحضن عائلته، بطلاً في حرب هي الأشرس على مر التاريخ، فيلم من خلاله تستشعر روح أنجلينا جولي الانسانة وليس الفنانة فقط تجوب في كل مشهد، ومع كل حوار، فهي كما صرحت «البعد الأعمق لهذه القصة هو مسألة الإيمان. إنّها تلك القدرة على فتح أعيننا لنرى أنّنا لسنا وحدنا بل نتغذّى من حب العائلة والأخوّة والإنسانية. تلك القدرة على إيجاد القوة في ذواتنا وصولاً حتى الموت من أجل ما نؤمن به». الفيلم ينتهي هنا، لكنه يكمل حكاياته عبر صور حقيقية لأبطال الحكاية، على رأسهم زامبريني الذي توفي أخيراً، واستطاع مشاهدة الفيلم قبل عرضه عالمياً، وهو يضيء الشعلة الأولمبية في طوكيو، مؤكداً أنه ذهب الى هناك ليبحث عن جلاديه، وحاول مقابلة واتناب، لكن الأخير رفض، كان يريد أن يقول له، حسب تعبيره،
«إن العفو أهم بكثير من الانتقام». الحرب العالمية الثانية وكل ما حدث فيها من ويلات، والكثير من القصص التي على ما يبدو لم تُروَ بعد، قررت أن تطوي صفحتها المليئة بإجرام لم يسبقه إجرام، بأن تسامح، وتصفح، وتتفق، حكايات تعطي الأمل نوعاً ما بما يجري في بعض الأقطار العربية التي تنزف الدم كل يوم، بأنه سيأتي يوم وتنتهي كل هذه الويلات التي تبعد عن الحرب العالمية الثانية عشرات السنين.
فالطبيعي أن كل المظلومين يريدون الانتقام يوماً ما، ولكن أمراً واحداً سيخلده التاريخ، هو أن يقرر المظلوم العفو عن المجرم الذي مرّ بحياته يوماً ما.
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news