المخرج تحدى الحُكم وجاب في شوارع طهران من خلال كاميرا مثبتة على سيارة أجرة ضمن مزيج الأحداث التي تصب في فئة التسجيلي والروائي. الصور من إدارة «برلين السينمائي».

«دب برلين الذهبي» في «تاكــسي» جعفر بناهي

فاز الفيلم الإيراني «تاكسي»، للمخرج جعفر بناهي، بجائزة الدب الذهبي في الدورة الـ65 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، وهو المحكوم بالإقامة الجبرية في إيران، لذلك لم تسنح له الفرصة لمغادرة بلاده لتسلم جائزته، هذه الحالة تحديداً مع وصفها العاطفي، هي التي كانت موجودة لدى معظم مشاهدي الفيلم قبيل الدخول إلى الصالة، الحديث كان عن قسوة النظام الإيراني الذي يمنع الحياة عن كل من يعارضه، لذلك أنت كمشاهد أو ناقد، تسيطر عليك هذه الحالة من التعاطف مع المخرج، وبناءً عليه ستشعر بأنك تغض البصر كثيراً عن قيمة الفيلم فنياً، وتدعم إنسانياً هذا المخرج الذي تحدى الحكم وجاب في شوارع طهران من خلال كاميرا مثبتة على سيارة أجرة، ضمن مزيج الأحداث التي تصب في فئة التسجيلي والروائي، تجد نفسك منوطاً بشخصيات الركاب التي كانت ضيفة على تاكسي بناهي الذي يؤدي دور السائق في الفيلم.

ومن المفارقة أن شخصيات معظم الركاب كانت طبيعية، وتميزت بالقدرة على التمثيل، باستثناء بناهي نفسه الذي كان ظله ثقيلاً، مقارنة بشخصيات الفيلم، يظهر هو كسائق تاكسي فعلاً، لكنه مخرج في الوقت نفسه، وينكشف أمره عبر مهرب الأفلام الذي يعرفه من النظرة الأولى، ويقرر الجلوس إلى جانبه، والتحدث عن مهنته الصعبة في بيع أفلام الـ«دي في دي»، وكأنه يبيع المخدرات، مؤكداً له أن تجارته هذه مهمة، حيث يبعث السرور لمحبي السينما في طهران من جهة، ومن جهة أخرى تسد رمقه من الجوع.

في البداية لا يظهر من بناهي سوى صوته وهو يستقبل الركاب، إلى أن يكتمل المشهد معه ومع شاب وامرأة، كل واحد منهم ذاهب إلى طريقه، هذا الشاب تحديداً على الأغلب هو من ستكون له علاقة بالنهاية التي ارتآها بناهي لفيلمه، فهو يثرثر كثيراً، ويبتز الراكبة التي تجلس في الخلف حول قضية إعدام اللصوص، وهو الذي يطالب بتنفيذ هذه العقوبة كي يرتدع الغير، في المقابل ترى المرأة وهي تعمل معلمة، بناء على ما قالته خلال حوارها مع الشاب، تعثر، وتؤكد أن سجل إيران في تنفيذ حكم الإعدام يأتي في المرتبة التالية بعد الصين، في هذه اللحظة يسأل الشاب عن عمل المرأة ، ويقرر النزول فجأة من السيارة، تشك فوراً كمشاهد أن هذا الشاب ليس سوى مخبر.

يستمر بناهي في التجوال بسيارته، ينتظر إشارة من راكب ليقله، هو في معظم المشاهد صامت لا يتحدث، يستمع فقط، ويبتسم كثيراً، سخرية ربما، إلى أن يأتي الراكب الذي كان عملياً أظرف شخصية في الفيلم، وهو بائع أفلام الـ«دي في دي»، التي تعتبر في إيران جريمة، وتهريبها مثل تهريب المخدرات، هذا البائع وبطبيعة عمله استطاع أن يكشف هوية بناهي، وكان يعتقد أن بناهي يصور فيلماً ولا يمكن أن يكون سائق سيارة أجرة، يدل مهرب الأفلام بناهي على البيت الذي يقصده وهو لشاب يدرس السينما، وهنا السخرية، شاب يريد أن يتخصص في السينما يستعين بمهرب ومقرصن أفلام لأنها ممنوعة في إيران، يستغل مهرب الأفلام وجود بناهي، ويؤكد للشاب أن بناهي شريكه، فيحرج بناهي من الموضوع ولا ينكره، فهو أعلم بحال شعبه، يطلب الشاب من بناهي ترشيح أفلام له، ويقوم بناهي بذلك بكل لطف، وبعد انتهاء المهمة يقرر بناهي أن ينهي مشواره مع مهرب الأفلام .

أسلوب بناهي هذه المرة، ومع أنه خرج من غرفته بعد فيلمه «ستائر مغلقة»، يشبه إلى حد كبير أسلوب المخرج كياروستامي الذي يعتبره بناهي استاذاً إليه، وقد قدم كياروستامي سابقاً فيلم «عشرة»، الذي تظهر فيه امرأة تقود سيارة تاكسي في طهران، وتنقل حكايات الركاب.

ومع ذلك تشعر بأن بناهي وجد في هذه الصيغة مخرجاً ومهرباً، كي يظل يخرج الأفلام، واستطاع أن ينجح في فيلمه فقط من خلال ممثلين أتقنوا الدور وكانوا قريبين للواقع، فشخصية الرجل الذي أصيب بحادث سير وزوجته، كانت من أكثر الشخصيات التي حاولت انتقاد النظام الإيراني بذكاء، حيث المرأة مكلومة وخائفة على فقدان زوجها المدمى، الذي كان يجلسها خلفه في «ماتور»، وهذا ممنوع، فشاء القدر أن يصاب بحادث من سيارة، هنا يتوجه الرجل المصاب إلى بناهي ويطلب منه تشغيل كاميرا هاتفه، وتصوير وصيته التي كانت عبارة عن ترك جميع أمواله لزوجته، الطريف في الموضوع، أن بناهي، وبعد إيصاله للمصاب وزوجته إلى المستشفى، لا يهدأ هاتفه من مكالمات زوجة المصاب التي تطالبه بإرسال الفيديو على هاتفها كي تحتفظ بالوصية للمستقبل.

تستمر الكاميرا مع بناهي، ومع كل راكب يقوم بتعديلها كي يخرج المشهد تقنياً، فمع السيدتين اللتين تحملان سمكة في وعاء، تبدأ الحبكة التي يريد بناهي إيصالها من خلال ربط المشاهد مع بعضها بعضاً من أول راكب إلى آخر راكب، حيث استعجالهما لأداء طقس ديني، وحديثهما غير المفهوم على الأقل من ناحية تقبل العقل له، يبدأ بناهي بالتوتر من إصرار السيدتين على استعجاله، إذ إن الوعاء يسقط إثر هذا الاستعجال، ويحاول بناهي إنقاذ السمكة، فهو لا قدرة له على جدال امرأتين تؤمنان بكل حرف تقولانه، حتى لو كان مبنياً على أكاذيب، في هذه الثناء يتذكر بناهي ضرورة الذهاب لاصطحاب ابنة شقيقته من المدرسة، فيضطر أن يستأذن السيدتين لضرورة إيجاد سيارة أجرة ثانية غير آبهٍ بتوسلاتهما، يتنفس الصعداء، ويصل إلى المدرسة، ترمقه ابنة الشقيقة بنظرة حادة، وتقول له «صديقاتي يعلمن أن خالي مخرج أفلام سينمائية، كيف سيصدقنني بعد الآن وهنّ يرينك سائق تاكسي؟»، وتبدأ الثرثرة التي لا تنتهي من فتاة تريد أن تصبح يوماً مثل خالها، تراها أخرجت كاميراتها الصغيرة، وبدأت بتصوير فيلمها الذي طلبته منها معلمتها، وتصبح كاميرا الفتاة هي الراصدة، وأسئلة كثيرة لا يجيب عن معظمها بناهي، خصوصاً في صيغة الفيلم المطلوب منها بأن يكون صالحاً للعرض ولا يتنافى مع الشروط الرقابية، فلا يجوز للمرأة أن تمثل وهي سافرة، ولا يجوز إقران المشاهد التصويرية باي شيء له علاقة بالجنس، بهذا المشهد تضع نفسك مكان بناهي، وتفكر في الجواب معه «ماذا سيقول لهذه الطفلة التي تحلم بأن تصبح مخرجة، إن خالك الذي تفخرين به لا يستطيع أن يمسك كاميرا في العلن؟»، مؤكداً لها بعد سماع شروط تصوير الفيلم التي القتها على مسامعه من كتابها «هم يريدون منك تصوير واقع لا يشبه الواقع الذي نعيشه».

تستمر المشاهد مع الطفلة التي لا تطفئ كاميرتها، وتظهر شخصية جديدة في الفيلم تكاد تكون الأجمل، بل والأكثر واقعية، لمحامية تدافع عن المعتقلين السياسيين في إيران، يجدها بناهي وهي تقف على قارعة الطريق تحمل الورود الحمراء، فكيف له أن ينساها وينسى ورودها، فهو من المعتقلين الذين تلقوا وردة منها دعوة للأمل، يدعوها إلى الركوب، وتبدأ الحديث عن المعتقلين وعن عائلاتهم المكلومة بهم، وأن الورد دائماً يخفف المعاناة، ويحمل في طياته أملاً في الغد، ويزرع الابتسامة في وجوه المظلومين، قدرة هذه المرأة التي ظهرت كراكبة في تاكسي بناهي على بث طاقة إيجابية شعر بها معظم الحضور، لدرجة أنك تنسلخ ذهنياً وتصيبك الحيرة فيما إذا كانت هذه الشخصية حقيقية أم لا، منظرها وهي تحمل الورود، صوتها الحنون، تشبثها بالأمل، تحديها ظلم النظام لكل من يقول «لا» في وجهه، تؤكد أن يوماً ما سيكون في طهران الكثير من تلك العينة والكثير من الورود.

من ضمن المشاهد الذكية أيضاً، المرتبطة بطريقة التلقين التعليمي الديني، أثناء وجود الطفلة في السيارة، وخروج خالها لقضاء حاجة، تنتبه لطفل فقير يسرق نقوداً ملقاة على الأرض من عروسين، فتناديه وتطلب منه إعادة النقود، وتصويره، وتملي عليه ما يفعله، وكأنها تصنع مشهداً لتثبت لمعلمتها وجود الخير، لكن الطفل يرفض، ومع إصرارها يرضخ لها، لكنه لا يصور المشهد كما تريد، هي أرادته لقطة فنية فيها قوانين مدروسة، لم تعجب الطفل السارق المحتاج.

يتلقى بناهي خلال جولته مكالمة من صديق، ويحاول إغراء ابنة أخته للذهاب بعيداً لابتياع نوع من الحلويات، لأن صديقه يريد أن يعرض عليه فيلماً نادراً عن طريقة تعذيب النظام للمعتقلين السياسيين، ويطلب منه أن يرى طريقة لوضع هذه المشاهد في فيلم من أفلامه، لكن بناهي يذكره بأنه ممنوع من حمل كاميرا.

تقترب النهاية بعد اكتشاف الطفلة وجود محفظة نقود على أرض السيارة، ويشك بناهي فوراً في أنها لإحدى السيدتين صاحبتي السمكة، فيقرر الذهاب إلى المكان المقصود وإيصال المحفظة، يترك سيارته جانباً، ويخرج هو والطفلة للبحث عن السيدتين، في هذه الأثناء يصل رجلان إلى السيارة، ويقتلعان الكاميرا، فتختفي الصورة، ويظهر صوت أحدهم: «لم أجد كرت التخزين»،

هذا المشهد يلخص حكاية بناهي، أنه الرغم من تحديه السلطة استطاع أحد مخبريهم أن يوصل الخبر إليهم، بأن بناهي يصنع فيلماً، هذا المشهد يجعلك تشك في كل راكب قصد تاكسي بناهي بأن يكون المخبر، وهي الرسالة التي تؤكد أن النظام يراقب كل شيء، وله عيون في كل مكان.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

 

الأكثر مشاركة