«لاتزال آليس».. الحب لا يسقــــط من الذاكرة
يحتفل العالم بتعزيز الأم من خلال تخصيص الـ21 من مارس لها وحدها، والأمهات في هذا العالم أنواع وأحاسيس، فهناك الأم السعيدة، والحزينة، والعزباء، والأرملة والمطلقة وأم لأطفال مصابين بالتوحد وأطفال معاقين، وأم المجرم وأم الديكتاتور، وأم تنسى رغماً عنها أن لديها أبناء بسبب إصابتها بمرض الزهايمر. ومن المناسب اليوم تسليط الضوء على هذه الفئة من الأمهات من خلال فيلم «لاتزال آليس» الذي نالت عنه بطلته جوليان مور أوسكار أفضل ممثلة لهذا العام، وهو للمخرجين واش ويستمورلاند وريتشارد غلاتزر، ووقف أمام مور الممثلة كريستين ستيوارت والممثل أليك بالدوين.
لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
الحدث ليس له علاقة بمقدار التعاطف مع آليس، الشخصية الرئيسة في الفيلم، وهي أستاذة في علم اللسانيات في جامعة كولومبيا، القضية في الذين يعيشون من حولها وقدرتهم ولو لمرة واحدة أن يدخلوا إلى عالمها الذي بدأ يتلاشى من ذاكرتها شيئاً فشيئاً، خصوصاً أن مرض الزهايمر الذي أصابها في سن مبكرة (50 عاماً)، يعد من الحالات النادرة المتعلقة بجين عائلي، وهذا الذي يخيفها أن تورثه لأحد أبنائها الثلاثة، لذا تصرفت كأم نسيت حالتها وباتت تراجع نتائج المختبر المتعلق بتحاليل أبنائها، التي أثبتت أن ابنتها الكبرى مصابة بهذا الجين، أما ابنها فنجا منه، وابنتها الصغرى العاشقة للتمثيل رفضت إجراء التحليل، وهنا تقف آليس وتعتذر.
الأحداث تبدأ من مشهد الاحتفال بعيد ميلاد آليس الـ50، وسط عائلتها، وفرحة الجميع بها ووصفها من خلال زوجها أنها أذكى امرأة تعرّف إليها في حياته، ليطل الصباح عليها وهي تلقي محاضرة على جمع كبير من الطلاب والعلماء، عن العلاقة بين الذاكرة والحساب، تؤكد من خلالها أن الأطفال يعرفون لغة الأم من اليوم الأول حتى الأربع سنوات، وتتوقف لحظة تحاول أن تلملم مفرداتها التي شعرت حسب وصفها أنها سقطت منها.
تشك آليس أنها مصابة بورم في الدماغ، خصوصاً أنها في اليوم نفسه تاهت عن طريق الجامعة التي تدرّس فيها، فتقرر الذهاب إلى طبيب أعصاب، وبعد تحاليل عدة تدرك أنها مصابة بالزهايمر المبكر، حينها تدور الدنيا بها، خصوصاً أنها لم تخبر أحداً من عائلتها، تقرر أن تشارك زوجها الذي يظهر منذ علمه أنه لن يقف إلى جانبها عندما تتدهور حالتها أكثر.
مشكلة آليس أيضاً أن حالتها تتناسب طردياً بين علم الشخص ومعرفته بالأشياء وإصابته بالمرض، حسب رأي طبيبها الخاص، وهذا الشيء يزيد من حالة فقدان الذاكرة والمفردات وحتى الأحاسيس، لكنها تصر على أن لهذا الذكاء قدرة أيضاً في التعاطي مع الدماغ من خلال التكنولوجيا والهواتف الذكية، فتبدأ برحلة تخزين المعلومات على هاتفها كل يوم كي لا تنسى.
العائلة في حياة آليس عبارة عن زوج وابنة كبيرة تحمل بتوأمين، وابن يدرس الطب، وابنة تعيش في لوس أنجلوس لشغفها بالتمثيل المسرحي، كل فرد فيهم بعد علمه بمرض والدته كانت له ردة فعل بطريقته، لكن الذي غيّر المعادلة أن الابنة، التي تعد منبوذة من العائلة لأنها لم تكمل دراستها الجامعية، هي التي ستكون لديها الحكاية الكاملة مع والدتها.
تحاول آليس أن تعيش حالة نكران لحالتها، خصوصاً عندما تصر على إكمال مهنتها في التدريس الجامعي، لكن رسالة من طالب إلى الإدارة كانت كفيلة بإنهاء خدماتها، إذ قال لهم إنه لم يختر صف الأستاذة آليس كي يتعلم منها عن طريق «الآيباد».
بدأ العد التنازلي في حياة آليس مع ذاكرتها التي وصفتها «كأن شيئاً يسقط من جسمي، كأن دماغي يموت، الصور والمفردات والأحاسيس تختفي»، حتى إنها تمنت يوماً لو أنها مصابة بالسرطان المرض الذي يعد الأبشع والأخبث.
تقرر آليس يوماً أن تصور فيديو خاصاً لها، تحفز نفسها على إنهاء حياتها إذا ما شعرت أنها وحيدة وأن كرامتها بدأت تؤلمها، هذا الفيديو سيكون له دور في المشاهد النهائية تقريباً من الفيلم.
يستمر المُشاهد مع الدوران في فلك حياة آليس التي باتت عبئاً على من اعتقدت أنهم سندها، حتى إن الخديعة في علاقة الزوج المحب الذي يحرص على مشاعرها وعلى استمرارها انكشفت في مواقف عدة، ولا شعورياً تبدأ بالنفور منه، الابنة الكبرى، التي من المفترض أن تكون الأقرب الى والدتها وهي الوحيدة التي حملت جينها المتعلق بالذاكرة، تنجب توأمين تخاف من أمها عندما طلبت منها أن تحمل أحدهما، الابن بعد مشهد المحاضرة التي ألقتها آليس عن الزهايمر، وهي المحاضرة الأخيرة، لم يظهر في المشهد.
المحاضرة الأخيرة لآليس، أعطتها إحساساً بأنها مازالت موجودة، فقد رشحها طبيبها لهذه المهمة، حتى إنها أخذت من وقتها ثلاثة أيام لكتابتها؛ وهي التي كانت ضليعة باللغة، ولجأت إلى قلم أصفر لتحدد الجمل التي قرأتها كي لا تعيد قراءتها مرة ثانية بسبب فقدانها الذاكرة.
من أهم ما ذكرته آليس في المحاضرة «الزهايمر هو أن تتعلم فن الخسارة كل يوم، كل ما تعلمته في حياتك يختفي فجأة، هذا هو الجحيم.. سلوكنا الغريب، جملنا، نظراتنا لأنفسنا، عجزنا، وتحولنا الى أضحوكة لمن حولنا بسبب مفردات تخرج في غير حينها، هذا هو مرضنا، وكأي مرض يوماً ما سيكون له العلاج.. هذا حلمي الآن والذي سأنساه قريباً بسبب الزهايمر، ألا يواجه أطفالنا ما أواجهه، الأهم أنني مازلت على قيد الحياة، أنا لا أعاني بل أناضل لأبقى متصلة مع من أحب»، وتختم قائلة «عش اللحظة».
عملياً كانت تلك المحاضرة هي اللحظة التي عاشتها آليس بكل تفاصيلها، وبعد ذلك تبدأ علاقتها مع نفسها بالتلاشي، إلى أن يأتي المشهد الذي يعد الأقوى بعد مشهد تمنيها إصابتها بالسرطان بدلاً من الزهايمر، عندما تصل إلى مرحلة عدم معرفتها بمكان «الحمّام»، تدور في المنزل، تفتح الأبواب، تتوه نظراتها في أرجاء البيت، تحاول أن تصل دون جدوى حتى تبول على نفسها، وهذه الحالة ليست أشد قسوة من حالات كثيرة تعيشها آليس التي وصلت الى حد عدم معرفة أبنائها.
تبدأ الأعصاب بالانهيار في محيط العائلة، لكن ثمة فرداً منها؛ المتمثل بـ«ليديا» التي تعيش بعيداً عن أمها تشكل حالة من التوازن في حياة آليس، فهي تتكلم معها بشكل يومي من خلال «السكايب»، تسمعها وتتحمل «لخبطاتها» وتساؤلاتها المتكررة، وخوفها الرصين عليها، أما الزوج فجاءته فرصة عمل خارج كولومبيا، فيقرر قبول العرض، تحاول آليس أن تثنيه، خصوصاً أنها دربت نفسها على المنزل ووجودها في مكان آخر سيرهقها ذهنياً ونفسياً، لكن الزوج يصر، فتصدمه آليس بالحقيقة «أنت قبلت العرض لتهرب من حالة لن تستطيع التعامل معها».
يتفق الزوج مع ابنته ليديا بالعودة إلى كولومبيا، فابنته الكبرى مشغولة بطفليها، وابنه مشغول بدراسته، أما ليديا وشغفها بالتمثيل فليس ضرورياً لعائلة علمية وعملية، ليديا لم تتأخر عن قبول العودة.
كريستين ستيوارت المعروفة بدورها في سلسلة «توايلايت»، قدمت دوراً من المنصف القول إنه أفضل أدوارها، وأكد قدرتها التمثيلية، خصوصاً أنها تقف أمام جوليان مور وأكثر مشاهدها معها.
قبل مشهد النهاية، هناك الفيديو الذي صورته آليس وهي مازالت في وعيها تحث نفسها على الانتحار، هذا المشهد تحديداً من الممكن أن يكون هو السبب في ترشح جوليان مور للأوسكار ونيلها الجائزة، فهي في مرحلة بائسة مع ذاكرتها، تفتح الفيديو بالمصادفة، وتدرك أن ثمة علبة دواء موجودة في الدرج تحت الضوء الأزرق عليها أن تأخذ كل الأقراص مع كأس ما وتنام بعدها، والأهم ألا تخبر أحداً، ابتسامتها وهي تشاهد نفسها في الفيديو تحث نفسها، جعلتها تتحمس للفكرة، لكنها كلما تصل إلى الغرفة تنسى الجملة التالية، فتنزل مرة أخرى إلى الكمبيوتر الموجود في المطبخ، وتعود إلى فوق، إلى أن تدرك ضرورة حمل الكمبيوتر معها، وتصل فعلاً الى علبة الدواء، لكن في لحظة الانتحار الوشيكة تصل الخادمة إلى المنزل وتسقط علبة الدواء من يدها.
الفيلم على الرغم من أنه لم ينجح تجارياً، فالجمهور بات بعيداً عن الأفلام التي تُبنى على روايات أدبية في ظل أفلام الثري دي والأكشن، إلا أنه بديع ومتناسق، والسيناريو فيه حافل بالأسئلة والأجوبة، وأداء مور بحد ذاته حكاية تروى.
فالنهاية التي جمعت ليديا الابنة مع أمها لوحدهما في منزل كبير، وفراغ أكبر، تؤكد أنه مهما تلاشت الذاكرة، ومهما نقصت المفردات ككلمات للتعبير، ثمة شيء يبقى في الذاكرة، له علاقة فعلاً بحاجة المريض، فليديا تجلس أمام والدتها آليس، تقرأ لها مقتطفات من مسرحية عن الموت وعلاقته بطبقة الأوزون، فالخيال وصل إلى حد اعتبار أن هذه الطبقة ما هي إلا أرواح ضحايا الحروب والأمراض والكوارث، وتنتهي ليديا من حكاياتها، تقترب من أمها وتسألها «عن ماذا كنت أتحدث؟» فتجيب آليس «عن الحب»، وهذا هو المغزى، فمن يُصب بالزهايمر يحتاج فقط إلى الحب، وهي المفردة الوحيدة التي لم تسقط من ذاكرة آليس.