عودة إلى فيلم الأخوين باولو وفيتوريو تافياني بعد مرور قرن على مأساة الأرمن
«مزرعة القبرة».. الحب في مواجهــــة الأمر العسكري
طالبت الحكومة الفرنسية، العام الفائت، الحكومة التركية بضرورة الاعتذار عن مجزرة الأرمن، التي ارتكبت في العهد العثماني عام 1915، وبدورها طالبت الحكومة التركية الحكومة الفرنسية بالاعتذار عن ارتكابها العديد من المجازر في حق بلد المليون شهيد الجزائر، لأنها تصر على أن ما حدث مع الأرمن كان جراء الحرب العالمية الأولى، ومع مناسبة مرور قرن على ما حدث مع الأرمن مع المسميات العديدة التي لازمتهم كالمجزرة والمحنة والإبادة والمأساة، ورغم وجود تجاذبات سياسية حول اعتذار الحكومة التركية، ذهبت قصص المجازر خلف العناوين الكبرى لصفقات سياسية ومصالح بين الدول والأطراف، لكن السينما تأبى إلا أن تنتصر لأصوات هؤلاء وقصصهم وحقوقهم برواية ما حدث، من خلال صنع أفلام لا تعد بالكثيرة، مقارنة مع أفلام «الهولوكوست»، كان آخرها فيلم للمخرج التركي فاتيح أكين حمل عنوان «القطع»، وقد تناولته «الإمارات اليوم» سابقاً، أما اليوم فالحديث سيكون عن فيلم إيطالي للأخوين باولو وفيتوريو تافياني، حمل عنوان «مزرعة القبرة»، لعب دور البطولة فيه باز فيغا، أرسينة خانجيان، أليساندر بريزيوني، أنجيلا مولينا، والفنان الفلسطيني محمد بكري وأنتج عام 2007، ويعتبر من أكثر الأفلام وسطية، من حيث تناوله قضية الأرمن، وكل ما حدث معهم من ويلات.
منذ اللحظة الأولى للفيلم ينتابك القلق، مع أن المشهد موجود في قصر كبير، ومن الواضح أن من يعيش فيه من الطبقة الغنية، تجول الكاميرا مع طفل يحمل عنقوداً من العنب، وترى شخصيات القصر في غرفهم يمارسون حياتهم الطبيعية بين لهو ونوم، وتصل الكاميرا، أخيراً، إلى غرفة رجل عجوز يحتضر، يقترب منه الطفل، ويطلب منه تذوق العنب، نظرة هذا الجد لحفيده كانت مليئة بالذعر، يمرر العنب عبر شفتيه وينظر إلى النافذة، ويتهيأ له، ويجد الحفيد أن دماء غطتها، ويرحل الجد عن الحياة، مشهد لم يستطع الطفل تفسيره، لينتقل مباشرة إلى جنازته فهو شخصية أرمنية مرموقة من حيث الوضع الاقتصادي وحتى السياسي، فله علاقات وطيدة مع ضباط الجيش العثماني الذين حضر بعضهم جنازته، لكن الذعر الذي كان في قلب الطفل كان مماثلاً، عندما رآهم يقتربون من تابوت جده، هو الإحساس بشيء آتٍ، سيئ لا محالة.
تصوير مشهد الجنازة كان مقصوداً لتوضيح العلاقات الجيدة بين الأرمن والأتراك، على الأقل من الناحية الاجتماعية، تدرك في هذا الجنازة أيضاً علاقة الحب التي تجمع بين «نونيك» والضابط في الجيش العثماني، ولهذه العلاقة شأن في المشاهد اللاحقة.
الحكاية كلها تصب في عائلة أفاكيان، التي كانت تنتظر عودة الشقيق الأكبر من البندقية، لكن الموت بحقهم كان أسرع من هذا اللقاء، القلق الموجود في الفيلم يتمثل دائماً بالكلمات التي يرددها «آرام» رب العائلة لزوجته وأبنائه وشقيقته، بأنه ليس من الممكن أن يصيبهم أي مكروه، خصوصاً بعد الأخبار التي باتت تصلهم عن ما يفعله الروس بالقوقازيين، وأنه ليس من الممكن أن يتم الانتقام منهم بسبب علاقتهم الجيدة مع الأتراك، مشيراً في أحد المشاهد إلى طبيب العائلة الأرمني، الذي أنقذ حياة الكولونيل التركي أركان من الموت يوماً ما، كل هذه التطمينات تذهب هباء في إحدى الحفلات التي تقيمها عائلة أفاكيان، والتي تدعو فيها جيرانهم الترك، ومن بينهم عائلة الكولونيل أركان، الذي كان قد تلقى فعلاً أمر ترحيل الأرمن، فيرسل زوجته التي سمعت كل شيء أثناء اجتماعه مع وفد من إسطنبول، تذهب الزوجة على مضض مذكرة زوجها بعلاقتهم الحسنة مع عائلة أفاكيان، وأنهم ليسوا أشراراً ولا أعداء، وتذهب على مضض يشوبه الإحساس بالرقص على الجثث، تصل وهي بحالة توتر شديدة، يأتي أطفال أفاكيان ليلقوا السلام عليها تنظر إلى وجوههم كأنها تودعهم وتقوم بحضن طفلة بقوة، وتقرر الشرب حتى فقدان الوعي، في هذه اللحظة وما خرج من فمها من كلمات، أدرك «آرام» أن ثمة خطراً حقيقياً يقترب منهم، ويقرر الفرار.
في المقابل، هناك علاقة حب بين نونيك شقيقة آرام، وبين ضابط تركي، علم هو الآخر بما سيحل بالأرمن، ويقرر الهروب مع حبيبته التي ترفض، وتقرر البقاء مع عائلتها. تبدأ الحرب فعلاً، عندما وصل عدد كبير من ضباط الجيش العثماني من العاصمة إسطنبول، دخلوا قصر أفاكيان، وقد كان آرام فرّ هو والطبيب إلى قصر كانا يعتقدان أن العثمانيين لن يصلوا له اسمه «مزرعة القبرة»، على أمل أن تلحقهم عائلاتهم إلى هناك، في هذه الأثناء، وخلال وجود الضباط العثمانيين في القصر، يبدؤون بتفحص المكان خصوصاً بعد شعار «تركيا للأتراك فقط» وكل ما فيها لهم، حتى لو كان عبارة عن وعاء للطعام، يسلمونهم رسالة مفادها الرحيل فوراً، ويغادرون مع وصول عدد كبير من الأرمن الفقراء الحال يرجون من نونيك وزوجة آرام أن تنقذاهم من خطر العثمانيين، فتقرر العائلة اصطحاب الجميع إلى مزرعة القبرة.
خلال هذه الأحداث، تظهر شخصية ناظم التي أدى دورها الفنان الفلسطيني محمد بكري، وهو متسول يعيش على حساب عطايا الآخرين، تجمعه مع عائلة أفاكيان علاقة مودة، رغم وصف الضابط له بقوله: «أنت لست أكثر من حيوان تأكل من طعام الأرمن». هذا المتسول الذي بسبب التهديد من ضباط الجيش العثماني الآتي من إسطنبول، دلهم على مكان مزرعة القبرة، التي اختبأ فيها الأرمن مع عائلة أفاكيان، اقتحم الجيش القصر، وقطعوا رأس آرام أفاكيان أمام زوجته، وبدؤوا بقتل كل ذكر في القصر عجوزا كان أو شاباً أو حتى طفلاً، حتى اضطرت النساء، ومن بينهن نساء أفاكيان إلى خرم آذان أبنائهن الذكور، كي يعتقد العثمانيون أنهم إناث.
مشاهد العنف الكبيرة بدأت فعلاً في الفيلم بالجزء الأخير منه، بعد كل هذه المقدمات التي حاول من خلالها المخرجان الأخوان أن يوصلا فكرة أن الحب عندما يصطدم بالأوامر العسكرية لا ينتصر، والحب أسمى من العيش والملح والجيرة الحسنة، لم تسعف مثلاً دموع امرأة حامل وضعت وليدها أثناء الهجرة على الأقدام قرار الجندي بضرورة التضحية به، لإعطائها الفرصة لتتخلص منه بنفسها، ولم تسعف نظرات طفلة تستجدي الجوع قلب ضابط لديه أطفال بالضرورة لتناول كسرة خبز، مشاهد أليمة من الصعب ألا تغمض عينيك وهي تمر أمامك، خصوصاً أنها مبنية على مذكرات واقعية.
تستمر رحلة التهجير على الأقدام، وتستمر مشاهد العنف والاغتصاب، وغيرها من ويلات الحروب، فتقرر نونيك أن تنقذ أبناء شقيقها من الجوع، خصوصاً بعد أن شعرت بضابط اسمه يوسف ينقذها دائماً من المشكلات، بعد مشهد يضم امرأة ورجلاً تركيين لديهما إذن مختوم باختيار أي فتاة أرمنية لخدمتهما، فيقف يوسف أمام هذه القرار، ويمنعه رغم تهديد ذلك الرجل المتنفذ.
يوسف في الفيلم جسد دور الطرف المغلوب على أمره، فهو كاره لكل شيء يحصل تجاه الأرمن، لكنه لا يستطيع عدم تنفيذ الأوامر، تقرر نونيك الذهاب إلى خيمته وتعرض عليه نفسها، فيقوم بتغطيتها، ويوضح لها أنه ليس شريراً، وأن الظرف أقوى منه، وهو شعر بعاطفة تجاهها، ووعدها بألا يمسها مكروه، ويعطيها خبزاً وبيضاً، لتطعم أطفال عائلتها، لكنها تصرّ على منحه نفسها كي لا يتم اغتصابها من آخرين.
لحظة النهاية اقتربت مع ظهور المتسول ناظم، الذي شكل مجموعة من الفقراء لإنقاذ من يستطيعون إنقاذهم من الأرمن عن طريق تهريبهم إلى الميناء للسفر إلى أوروبا، يستطيع ناظم الوصول إلى حلب، ودير الزور، المناطق التي كانت تعج بالأرمن المهجرين، ويصل إلى عائلة أفاكيان، وأثناء هروبهم يكتشف الجنود العثمانيون اختفاءهم، فتعمل نونيك على إلهائهم حتى يتسنى للأطفال الهروب مع أمهم، فيتم القبض على نونيك، هنا يقف يوسف مواجهة مع نونيك، ويتلقى أمراً بقتلها ويفعل.
المشاهد بعد ذلك انقسمت إلى قسمين: الأول وصول ما تبقى من عائلة أفاكيان لإيطاليا إلى بيت شقيق آرام، وعودة طفلهم الذكر لارتداء البنطال، والقسم الثاني أثناء محكمة عسكرية، يقف فيها يوسف ليقول شهادته في حضرة ضباط عثمانيين ينكرون كل ما حدث، ويختم بالقول: «الذي حدث حقيقة، والدليل أنني قتلت حبيبتي بيدي».
يبدو أن الاعتذار سيطالب به كثيرون على هذه الأرض، في ظل جرائم ضد الإنسانية مازالت ترتكب في كثير من مناطق العالم، وليست بعيدة عنها أقطار عربية.
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news