نور الشريف.. غياب المتفرد «بتــــوقيت القاهرة»

حالة من الحب الكبير تستطيع بسهولة لمسها من ردود أفعال جمهور عريض، جاء ليحتفي بتكريم الراحل الفنان نور الشريف في الدورة الفائتة من مهرجان دبي السينمائي، التي شهدت أيضاً العرض العالمي الأول لآخر أدواره في فيلم «بتوقيت القاهرة»، الذي مثل فيه مع مجموعة من كبار السينما المصرية على رأسهم ميرفت أمين، وسمير صبري، وهو من إخراج أمير رمسيس.

وعلى الرغم من مرضه الشديد حينها، وهيئته التي اختلفت كلياً عن ما هو معروف، إلا أن ابتسامته كانت حاضرة دوماً، وعنفوانه متسق مع خطواته البطيئة، وحديثه كان مهموماً بحالة الوطن العربي.

الشريف، الذي وافته المنية أول من أمس، الذي قدم العديد من الأفلام السينمائية والمسرحيات والمسلسلات، استطاع بشكل خاص أن يقدم المختلف دائماً، وتحدى من خلال معالم وجهه الطفولية، التي باتت سمة، أن يتحايل ويحولها إلى معالم خاصة لكل دور قدمه.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

وأخيراً كان حضوره القوي في فيلم «بتوقيت القاهرة» للمخرج أمير رمسيس، في شخصية يحيى الرجل المصاب بالزهايمر، لكن المرض في حالته له علاقة بتمسكه بماضٍ جميل لا يشبه حاضره، وهو الذي يعيش في منزل ابنه الذي يتعمد إهانته كل يوم، ووصل الحدّ به إلى أن يتعدى عليه بالضرب، ما جعل الأب يترك كل شيء في المنزل باستثناء ساعة قديمة، وصورة لامرأة جميلة يصر يحيى أنه يعرفها، ويجب البحث عنها. يحيى لم ينسَ ابنته، بل نسي اسم ابنه العاق المتشدد دينياً، وغير البار بوالديه. في هذا الدور تستطيع ومع الرجوع إلى الذاكرة القريبة أن تستشعر حضور نور الشريف الإنسان وليس الممثل، كأنه كان ينتظر مثل هذا الدور ليقدم نفسه بعقله الباطني، وماذا كان يفكر بطريقته التي يحب وهي أمام كاميرا السينما.

من الصعب الحديث عن مسيرة نور الشريف دون ذكر علاقته السينمائية مع المخرج عاطف الطيب، الذي قدم معه أدواراً مختلفة ومهمة في مسيرته السينمائية: «ليلة ساخنة»، «سواق الأوتوبيس»، «ناجي العلي»، «دماء على الاسفلت»، «قلب الليل»، هذه الثنائية بينهما التي امتدت لأكثر من خمسة أفلام، أثبتت أن عاطف الطيب استطاع أن يُخرج الكثير من نور الشريف، ففيلم مثل «دماء على الاسفلت» على سبيل المثال لا الحصر، استطاع أن يخرج طاقة كامنة لممثلين عديدين، على رأسهم نور الشريف وحنان شوقي وإيمان الطوخي، وفي الحديث عن الشريف الذي جسد دور الابن الأكبر لعائلة «نور الحسن» وهو يعمل في وظيفة مرموقة خارج البلاد، ولديه اسمه وسمعته التي جعلته يعود إلى مصر بعد اتهام أبيه بتلقي رشوة لإخفاء ملف لقضية فساد كبيرة، الطاقة التمثيلية في الفيلم لم تكن بسبب الحالة الظاهرية التي يراد إيصالها باهتمام ابن ببراءة أبيه بقدر ما هي الاهتمام بشكل هذا الابن ومنصبه، الذي من الممكن أن يتأثر بسبب سمعة الأب التي اقتربت من الهاوية، وتفاصيل الفيلم التي تبدأ بالتكشف رويداً رويداً، خصوصاً مع شكل عائلة متفككة، فيها أخت تعمل في أحد الفنادق، وأخ يكتشف في النهاية أنه لص ليشبع إدمانه، ويكون هو السبب وراء اختفاء الملف، وعمل أخته الحقيقي كفتاة ليل، كل هذه الأمور والتفاصيل التي تحاصر نور الشريف كرجل نفوذ وسمعة مرموقة، باتت هي الأساس في تعقب الأسباب التي أوصلت عائلته إلى هذا الشكل، هذا الفيلم يقوم على حال وصلت إليها مصر والعديد من البلدان العربية في التسعينات، بعد الانفتاح على السوق العالمية، وانتشار العديد من المشكلات الأسرية بسبب انتشار المخدرات وغيرها بين الشباب، باتت ظاهرة أراد من خلالها عاطف الطيب أن يحكيها عبر فيلم، وهو الذي اعتاد دائماً أن يقدم مشكلات وطنه عبر الشاشة الذهبية.

الذي حدث مع نور الشريف في الفيلم أنه تحول إلى محقق بمساعدة ابنة عمه، لهاث، وحيرة، وتساؤلات، وعدم مواجهة الحقيقة في كثير من الأماكن، جعلت أداء الشريف استثنائياً وواقعياً، ويشبه شخصيات حقيقية تعيش بيننا، إذ استطاع أن يؤكد أن التفكك الأسري هو السبب وراء فكرة الضياع، وتحول الأب إلى منصت لأبنائه دون سلطة خاصة مع وجود المال الذي تدره ابنته، فاختفت الرقابة الفعلية واختفت معها قيمة السؤال.

المشهد الأخير من الفيلم، الذي علق في بال كثيرين من محبي السينما ومتابعيها، عندما هربت شقيقته الصغرى من غرفة أحد الدافعين لها بعد أن نهش وجهها، ووقفت أمام سيارة تبتسم للموت، مشهد اكتمل بعد أن سالت الدماء على الاسفلت، وعلى يد شقيقها الأكبر الذي حضنها.

من الأدوار المهمة التي علقت بذاكرة مشاهدين ومتخصصين بالسينما، دور الشريف في شخصية عمر الشاب الأبكم والأصم في فيلم «الصرخة» للمخرج محمد النجار، والذي وقفت أمامه الراحلة معالي زايد في دور الباحثة في علوم الصم والبكم، الشريف في هذه الشخصية أدى دوراً استثنائياً، مزج فيه قدرته على التعبير من خلال حركات وجهه، وابتسامته، وتعبيره عن حبه بيديه ونظرات عيونه، استطاع بالفعل أن يبذل طاقة كبيرة ليوصل قدرة رجل لا يسمع ولا يتكلم على التعبير، في كل مشهد تم ظلمه فيه بداية من إخلاء منزل والده بعد إحالته إلى المعاش، ومحاولته الجاهدة في تعلم الكتابة والقراءة، وتجميعه المال كي يعالج إعاقته، ووقوعه في حب الباحثة في علوم الصم والبكم، واستغلالها له في دراستها لنيل الدكتوراه، من أعماله الشاقة في غسل السيارات والسباكة، التي تدر مالاً كثيراً عليه، تجعل شخصية معزوزة الجارة التي تريد استغلاله أيضاً، تحوم حوله وتتزوجه، لكن عمر يخفي المال عنها لأنه يأمل العلاج الذي وعدته به الباحثة، لكن الحياة تقسو عليه أكثر، فزوجته تتهمه باغتصاب صديقتها، كي تسجنه وتحصل على ماله، فيستعين عمر بتجربته مع الدكتورة الباحثة عندما عرضت نفسها عليه ورفض كدليل على أخلاقه العالية، فتنكر وترفض الدكتورة الاعتراف بهذه الواقعة خوفاً على سمعتها، في مشهد محاكمة تعج الصالة فيه بالمصابين من الصم والبكم الذين فهموا ماذا قال عمر للدكتورة، وغضبهم الذي خرج عبر حركات رافضة لم يفهمها القاضي الذي أمر بإخراجهم من القاعة.

لكن العبقرية في كمية الغضب والشعور بالظلم وكل المشاعر التي قد يعيشها أي إنسان على هذه الأرض، كان يتمثل في المشهد الأخير، عندما قررت مجموعة من الصم والبكم خطف الدكتورة وزوجة عمر وصديقتها في مركز الصم والبكم، ويقررون محاكمتهم بعيداً عن ظلم القضاء لهم، وكان الحكم إفقادهم سمعهم، لأناس استغلوا إعاقتهم أبشع استغلال، لأناس ببساطة لا يقدرون على التعبير عن حقوقهم بالصوت، فتخرج صرخة مدوية تشعرها خرجت من كل خلية في جسد الشريف، تهز المشهد وينتهي مع صورته وفمه مفتوح على مصراعيه.

وليس من الممكن تذكر أدوار الراحل نور الشريف دون ربطها مع المخرج الراحل يوسف شاهين، في دور ابن رشد في فيلم «المصير»، استطاع الشريف من خلال هذه الشخصية التي تدور أحداثها في الأندلس، وكان ابن رشد قاضي قضاة قرطبة، أن يحكي قيمة الفكرة سواء كانت شريرة أو خيرة، في طريقة تناولها من جيل إلى آخر، فالأفكار لا تموت حتى لو تم حرقها، كما حصل مع مكتبة ابن رشد، فالحالة التي أراد شاهين إظهارها بشخصية ابن رشد هي الفرق بين التوجه نحو الاجتهاد بما يتطلبه العصر، وبين التمثل بالسلف التي كانت حاضرة في شخصية الشيخ رياض، الذي أمر أخيرا بحرق مكتبة ابن رشد، فالفكرة لا تموت، بالنسبة لابن رشد، لأن لها أجنحة، ولأن «الأغاني لسة ممكنة»، كما غناها محمد منير في الفيلم.

هذه الفكرة تشبه قصة رحيل نور الشريف، الذي ترك إرثاً من الأدوار والتصريحات الحوارية، التي لن تموت بغياب جسده عن الحياة.

الأكثر مشاركة