«قرطاج».. الشعب يحب السينما
أن تمشي في شارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة، وتسمع مصادفة إلى حديث جانبي لمجموعة من الأشخاص يجلسون على طاولة يتابعون جدول عروض الأفلام، وتعلو أصواتهم بعناوين يجب أن يقطعوا التذاكر لحضورها، تدرك تماماً أنك بين شعب يحب السينما، وأن يصبح الجمهور التونسي هو المنافس لك كضيف على المهرجان بسبب عدد المقاعد في دور العرض، ستتأكد أنك بين شعب يدرك تماماً معنى السينما ودورها في الجمال والفكرة والتغيير، ومع أن الدورة الـ26 من مهرجان قرطاج السينمائي خصصت أوقات عرض للصحافيين والنقاد للأفلام المشاركة في المسابقات المتنوعة، إلا أن بقية العروض التي لا تدخل في المسابقة تشكل تنافساً فعلياً في ضرورة الحصول على التذاكر بسبب الطوابير الكبيرة التي يقف بها عشاق السينما وروادها. هذه الحالة لا تجدها كثيراً إلا في مهرجانات أوروبية مثل مهرجاني «كان» و«برلين»، على سبيل المثال لا الحصر.
عروض للسجون
جديد عروض المهرجان هذا العام أنها ستعرض أفلاماً في أربعة سجون «برج الرومي، المرناقية، المهدية وسجن النساء بمنوبة». أفلام وكذلك مخرجون (أو ممثلون) يرافقهم ممهّدون من المنظمة العالمية ضد التعذيب، سيلجون تلك الفضاءات المغلقة، المكتظة والمحزنة من أجل منح رجال ونساء محرومين مؤقتاً من حريتهم، لحظة حلم، ومنفذاً للهواء الطلق إلى عالم الألوان والحركة للتعبير والظهور والإبقاء على صلة، ولو كانت عابرة، مع أحداث «العالم الخارجي»، بما يعزز قدرتهم على التجاوز وإعادة بناء الذات، ومواصلة الثقة بالحياة. فيلم الافتتاح
لاقى الفيلم الأول ليارد زيليكي نجاحاً كبيراً حيث تم اختياره ضمن دورة مهرجان «كان» 2015 في قسم «نظرة خاصة» كما عرض في العديد من المهرجانات العالمية. تم اختيار «الشاة» لافتتاح مهرجان أيام قرطاج السينمائية في عرضه الأول عربياً وإفريقياً، وذلك بحضور فريق التصوير، ويروي قصة مؤثرة بنظرة مختلفة وعميقة لطفل إثيوبي في رحلة لاكتشاف أبعاد شخصيته. |
افتتحت الدورة الـ26 بمشاركة كوكبة من الفنانين التونسيين مثل هند صبري، والعرب مثل سلوى خطاب وكندة علوش وحلا شيحة، والأجانب مثل الفنانة الفرنسية فيكتوريا آبريل، وكان من يقف خارج المسرح أكثر من الذين يحملون بطاقة دخول رسمية، لذلك لم يكن مفاجئاً أن يقوم عريف حفل الافتتاح بتوجيه شكر خاص لهم، وكيف لا يشكرهم وهم السبب في صناعة مشهد سينمائي يبني علاقة ودية مع أفلام جاءت من كل أنحاء العالم.
الافتتاح
على أنغام سيمفونية لمقطوعات عالمية، مثل بحيرة البجعة وموسيقى فيلم زوربا، وغيرهما، افتتحت وزيرة الثقافة في تونس، لطيفة لخضر، فعاليات الدورة 26 من مهرجان قرطاج، الذي حمل شعار «نحاور، نحلم ونتقدم»، الذي تتنافس فيه 17 فيلماً طويلاً و133 فيلماً قصيراً و16 فيلماً وثائقياً، ولأنك في تونس بلد شعلة الثورات العربية فمن الطبيعي أن يدخل الخطاب السياسي مع الثقافي، خصوصاً أن تونس غير بعيدة عن تهديدات قد تمس بأمنها، لذلك كان المشهد الأمني واضحاً جداً، وتنوع بين شرطة وجيش وأمن داخلي، تقوم بكل ما أوتيت من صدق بحماية المهرجان وضيوفه في تحدٍّ ملموس ومتفق عليه بأن الرصاص والموت لن يخفضا صوت الفن المرتبط دائماً بالحياة.
وتخللت الحفل بعد كلمات عاطفية فيها الكثير من التحدي لكل من يقف أمام الحياة، تكريمات لفنانين من العالم، وتحت عنوان «عينهم خصبة» رأت إدارة المهرجان تذكير العالم بفنانات من مصر تركوا الدنيا لكنهن لم يتركن بصمتهن، وكان ذلك من نصيب فاتن حمامة، معالي زايد، نبيهة لطفي، مريم فخر الدين، وأسماء البكري، وعالمياً تم تكريم المخرج البرتغالي «مانوال دي أوليفيرا» تحت عنوان «السينمائي المعمّر».
وكانت ملح الضيوف المشاركين بسبب خفة ظلها، على الرغم من حديثها باللغة الفرنسية من دون ترجمة، الفنانة الفرنسية فيكتوريا آبريل، التي تمت دعوتها لتطلق تظاهرة خاصة بالسينما الإيبيريةـ وتخص السينما الأرجنتينية وقد كتبت الإعلامية الفرنسية من أصل لبناني، هدى إبراهيم، ترجمة لبعض ما قالته فيكتوريا «إن السينما لها مفعول صحي، إنها تساعدني وساعدتني على العيش».
فيلمان إلى دبي
بدأت عروض اليوم الأول مع مجموعة من الأفلام العربية والعالمية، تم عرض الكثير منها في مهرجانات مختلفة، والبداية الفعلية كانت مع الفيلم التونسي الذي يعد العمل الروائي الطويل الأول للمخرجة التونسية، ليلى بوزيد، الذي حمل عنوان «على حلة عيني»، وهو من بطولة أغلبية شابة تقف أمام الكاميرا وتؤدي أدواراً استثنائية، مثل دور بطلته بية المظفر التي أدت دور (فرح)، هذا الفيلم الذي سيشارك أيضاً في الدورة 12 من مهرجان دبي السينمائي، تم عرضه لأول مرة في مهرجان فينيسيا في دورته 72، وحصل على جائزة اختيار الجمهور، ومن داعمي الفيلم، وأسهم في إنتاجه «صندوق سند» في العاصمة أبوظبي. أما الفيلم الثاني فهو «مدام كوراج» للجزائري مرزاق علواش، وقد عرض عربياً في مهرجان القاهرة، وسيعرض أيضاً في قسم «ليالي عربية» في مهرجان دبي السينمائي. لذلك سيكون الحديث عن الفيلمين بشكل مختصر لإعطاء فرصة لمن يستعد لمشاهدتهما في مهرجان دبي السينمائي قريباً.
«على حلة عيني»
فيلم «على حلة عيني» من المنصف وصفه كتجربة أولى أنه استثنائي بطريقة العرض المتسقة اتساقاً يشبه الكيمياء بين سيناريو كتبته مخرجة العمل، ليلى بوزيد، وإدارتها للممثلين الذين يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، إضافة إلى حبكة من الصعب ألا تقع في غرامها، خصوصاً عندما يكون الموضوع له علاقة بالموسيقى والغناء اللذين تمارسهما بطلة الفيلم في شخصية (فرح)، التذبذب بالعلاقة بينها وبين الموسيقى بسبب الحالة الاجتماعية السائدة والمركبة بين سلطة ودين وتقليد، خصوصاً أن الفيلم يحكي قبل الثورة التونسية وتحديداً في صيف 2010، أنت أمام حكاية تلعب الموسيقى والغناء والكلمات دوراً مهماً لتؤكد على خاصية ونوعية محددة بطريقة السرد، هذه الفتاة بطلة الفيلم التي تستعد لخضوع أنواع التحديات للمضي نحو شغفها، تتعرض كثيراً لاعتراضات والدتها التي تسجلها في الجامعة لدراسة الطب، وتتعرض لجرح لقلبها بعد بُعد حبيبها عنها، وتمارس كل الطرق الطفولية كي تذهب إلى الحانة وتغني حتى لو استدعى الأمر أن تحبس والدتها في المنزل، هذه الوالدة التي يختم الفيلم معها وهي تترجى ابنتها أن تغني، نعم قد انقلبت الحكاية بسبب تعرض (فرح) للسجن والتحرش والضرب. الاغتصاب اللفظي والمعنوي، أخفى صوت (فرح) التي تحولت إلى خائفة ومترددة، لكن مشهد والدتها وهي تحثها وتقول لها «غني، غني غني» كفيل بأن كل الموروثات والمعتقدات التي تقف ضد الحياة تنتظر لحظة واحدة كي تتماهى مع الحياة.
«مدام كوراج»
أما فيلم مرزاق علواش الجزائري «مدام كوراج»، فهو بحد ذاته قيمة فنية بمعنى الكلمة، لها علاقة بتقديم ما يحترم عقل المتلقي، ويترك في نفسه الأثر الكبير بأن يصرخ ويشكر علواش على هذه التحفة السينمائية الخاصة، التي جعلت من الجمهور سواء في مهرجان القاهرة السينمائي في عرضه الأول عربياً، أو في مهرجان قرطاج السينمائي، أن يصفق طويلاً للقصة والسيناريو والحوار والتمثيل والمغزى المراد منه، خصوصاً أن علواش يتخصص دائماً في تقديم ما يلامس المجتمع الجزائري بطريقة خاصة، هو الذي يريد أن يقترب من بلده وهمومها بالفن والسينما والعرض الذي من الصعب نسيانه.
«مدام كوراج»، الذي دعمه أيضاً «صندوق سند»، كناية عن نوع من مجموعة من الحبوب التي تشبه إلى حد ما المخدرات، يتم تعاطيها من قبل نسبة من الشباب الجزائري، حاول علواش أن يحكيها من خلال شاب اسمه (عمر) يعيش في منطقة عشوائية مع والدته التي تشجع ابنتها على البغاء، سواء من خلال الممارسة الجنسية الجسدية أو من خلال الإنترنت، هذا الشاب لا يحب شيئاً اكثر من شقيقته، ولا يكره أحداً مثل أمه، التي بسببها تحول هو إلى لص كي يحصل على مبتغاه من حبوب «مدام كوراج»، يعرفه الحي، وينظر إليه نظرات استحقار بسبب علمه بعمل شقيقته.
المشهد الأدائي التمثيلي في الفيلم يطغى على الحوار غير الموجود بشكل كبير، فيكفي أن تنظر إلى (عمر)، وإلى طريقة عرض نفسه، وتعابير وجهه الهائمة دائماً بسبب سيطرة حبوب «مدام كوراج» عليه، كي تحاول تتبع مصيره المجهول. هذه الفتاة التي أحبها (عمر) استطاعت أن تخرج الأصالة من قلبه في مشهد واحد، حين سرق قلادتها، لكن صوت بكائها المرتبط بوفاة أمها التي أهدتها القلادة جعل (عمر) يلحقها في كل مكان ليعيد لها القلادة.ومع أن الفيلم المليء بالمشاهد العذبة رغم سوداوية الحكاية، إلا أنه يستطيع أن يعطيك الفرصة لمشاهدة قيمة فنية، لا تقل قدراً عما قدمه علواش سابقاً مثل فيلمه «السطوح»، نهاية الفيلم التي لا تحل أي مشكلة تم ذكرها، هي بحد ذاتها نهاية ذكية وعميقة.