قفزات الألفية الجديدة تُفنّد اتجاه «نهاية السينما»
عندما قال صانع الأفلام الفرنسي جان لوك غودار، رائد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، عام 1963: «أنتظر نهاية السينما بتفاؤل»، استفزّ البعض رغم عفوية المقولة، إذ اختلف مؤرّخو السينما في تفسير معناها، لكن معظمهم ذهب إلى المعنى المتسق مع اتجاه غودار الراديكالي (سينمائياً)، وهو كسر الاتجاه التقليدي السائد في هوليوود والسينما الفرنسية في نهاية الخمسينات وحتى نهاية الستينات أو ما يعرف بـ Narrative Cinema، أي قصة ببداية ونهاية أو سير أحداث الفيلم بشكل منطقي (سبب ونتيجة)، ولكن قفزات الألفية الجديدة فنّدت ذلك الاتجاه.
تلك المقولة بالطبع بدت كمبالغة شديدة وقتها، خصوصاً أنها كانت فترة إنتاج كلاسيكيات من جهة، ولأن السينما تجاوزت أول تحدٍّ لها، وهو التلفزيون، من جهة ثانية. لكن بدخول القرن الـ21 بدأ المؤرّخون يسترجعون تلك المقولة، إذ ظهرت علامات واضحة تشير إلى نهاية السينما بالشكل المتعارف عليه أول ظهورها وأثناء مراحل تطورها. في وسط عقد التسعينات بلغت السينما 100 عام، وكانت الذكرى المئوية مناسبة تعمدت فيها الاستوديوهات نفض غبار أرشيفها، لإطلاق موجة نوستالجية (لم تنتهِ إلى اليوم) من إعادات الإصدار لأفلام الماضي كأنها تهنّئ نفسها بالمناسبة.
وبدأت الاستوديوهات تقدّر، للمرة الأولى، القيمة الثقافية لأفلامها والقيمة المالية لمكتباتها في سوق المستهلكين. وأصبحت إصدارات الـ«دي في دي» تتضمن بيانات تاريخية عن عمل ما، أفلاماً توثيقية عن صناعة الفيلم المراد بيعه على القرص، ومقابلات مع نجوم ومخرج العمل الفني. ووجدت الاستوديوهات طرقاً عدة لاستغلال وإعادة تدوير أعمالها القديمة على تلك الأقراص الرقمية أو بيعها على قنوات الكيبل، أو الإعلان عنها في التلفزيون.
أسهمت النتائج المترتبة على احتفالية السينما بذكراها المئوية في تراجع الأفكار الإبداعية من قبل منتجي هوليوود الحريصين على استمرار تدفق الأموال إلى الخزائن إرضاءً للتنفيذيين في مجالس الإدارات. وبانتصاف عقد التسعينات، ثم اقترابه من نهايته، أفاقت الاستوديوهات على مسألة نهاية القرن أو استخدام خرافة نهاية العالم عام 2000 لتضخيم الحدث، وأدركت أهمية المناسبة لإنتاج أفلام تتناول الموضوع كان أهمها Strange Days و End of Days و Terminator 3 (الذي جاء متأخراً قليلاً)، هذه الأفلام أثبتت أن الكوارث العالمية مادة غنية ومسلية ومثيرة للجماهير للتربح منها. في السياق ذاته، كان هناك حدث مهم وجد تضخيماً إعلامياً تسبّب في خلق حالة ذعر آنذاك إلا أنه لم يجد مبرراً لتناوله سينمائياً، وهو المعروف بـ Y2K، وللتذكير هو تصوّر انهيار كل الأنظمة الإلكترونية وتوقف كل العمليات في العالم بسبب شائعة وجود خطأ برمجي في الحواسيب لم يأخذ في الحسبان أن الرقم 2000 سيلي 1999، وأن الحواسيب بطبيعة البرمجة ستعود للرقم 0، وبالتالي فقدان كل المعلومات والتوقف عن العمل.
ذلك لم يمنع منتجي الأفلام من استغلال أحداث أخرى مع دخول الألفية الجديدة، مثل الإرهاب، خصوصاً بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، ووباء الإيدز، والحرب على المخدرات، والاحتباس الحراري، والاضطرابات السياسية في إفريقيا والشرق الأوسط (منطقتان فشلت فيهما التدخلات العسكرية الأميركية) لإنتاج أفلام، مثل Collateral Damage و Syriana و The Hours وTraffic وThe Day After Tomorrow و Black Hawk Down وThree Kings وJarhead، كل هذه الأفلام ناقشت الأوضاع السياسية خلال العشرين سنة الماضية.
وجاء اجتياح إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش (2001-2008) أفغانستان والعراق مكملاً لسياسة القوة الناعمة التي هندسها الاستراتيجي الأسبق في إدارة كلينتون، جوزيف ناي، والعاملان أسهما في فرض الثقافة الأميركية حول العالم، وجاءت السينما عاملاً معززاً لذلك عندما تغير اسم الإنتاج القادم من هوليوود من فيلم أميركي (البعض يراها تسمية قديمة) إلى فيلم عالمي، وبالتالي ذلك أثر بشكل اطرادي في إيرادات الأفلام التي حققت أرباحاً عالية خارج الأراضي الأميركية نافست مدخول الأفلام المحلية، فعلى سبيل المثال في دول تمتلك صناعة سينمائية كمصر والهند والصين نجد أن الجمهور هناك يفضل إنتاج هوليوود رغم وجود إنتاج محلي جيد.
وصاحب تزايد ظاهرة العولمة في القرن الـ21 تطور كبير في التقنية المستخدمة، وهو التطور الرئيس الثالث (بعد دخول الصوت آخر العشرينات، وإدخال الألوان في الستينات)، وتمثل في إدخال الصور المصنّعة بالكمبيوتر المعروفة اختصاراً CGI، لإضفاء الصدقية على الأفلام ذات القصص الخيالية الجامحة، وهذا بقدر ما سهّل على منفذي الفيلم إنجازه بالشكل المطلوب إلا أنه وضع الممثلين أمام تحدٍّ صعب، وهو التمثيل وحدهم أمام شاشات خالية (غالباً خضراء) ليتم إدخال المؤثرات الخاصة المرئية لاحقاً، وهذا التحول أدى إلى دخول مهنيين جدد إلى صناعة السينما يُطلَق عليهم مهندسو وفنيو الأفلام.
التطور التقني لامس كذلك صالات السينما، فبعد أن كانت الأفلام تعرض في مبانٍ قديمة تسمى Movie Palace، أصبحت الآن في مجمع صالات مخصصة تحوي ما يصل إلى 20 شاشة مزودة بمقاعد مريحة وأحدث الأنظمة الصوتية. هذه التغييرات الجذرية في صناعة السينما أثرت بشدة في عملية الإنتاج، فأصبح تركيز المنتجين منصبّاً على أفلام حركة وإثارة بمؤثرات صوتية، ونضرب مثالاً بثلاثية The Matrix التي بدأت من نهاية القرن الماضي وانتهت عام 2003، وقد صنعت خصيصاً لاستغلال هذه العوامل الحديثة. وكأن التاريخ أعاد نفسه: فكما اجتذبت المؤثرات الخاصة الجماهير لصالات السينما، شدت الأفلام القصيرة الناس لمشاهدتها أواخر القرن الـ19، وجرّت الأفلام الصامتة المتفرجين بداية القرن الـ20، ففي الحالات الثلاث الجمهور انجذب للتجربة، وليس محتوى الفيلم.
ولم تتوقف عملية تطوير الفن السابع، فدخلت تقنية 4D أو البعد الرابع، وهي صالات مزودة بمقاعد متحركة ورشاشات ماء وثقوب هواء صغيرة خلف أذن المشاهد ودخان، لتنقله إلى داخل الفيلم ليعيش تجربة الشخصيات. هذه التقنيات أثارت تساؤلات منتقدين، مثل: هل السينما تحتضر لتلجأ لهذه التقنيات؟ مقابل مؤيدين يقولون إن صناعة الترفيه بحاجة إلى ذلك، خصوصاً في ظل تحديات ألعاب الفيديو وظهور تقنية HD الصورة الرقمية العالية الوضوح وأنظمة السينما المنزلية وخدمة أفلام تحت الطلب الفوري التلفزيونية، وهي تحديات أقنعت الكثيرين بالبقاء في بيوتهم ومشاهدة الأفلام بدل السينما.
رغم تلك التحديات تمكنت الاستوديوهات من كتابة أكثر من حياة لكل منتجاتها، فلم يعد مقياس النجاح في القرن الـ21 عدد مبيعات التذاكر، فلو أخفق فيلم في الصالات، فإن حياة ثانية تكتب له في أسواق الفيديو، أو في قنوات الكيبل، تعوّض فشله سينمائياً.
وتبيّن أن الأفلام الأكثر نجاحاً هي التي تتحدث بلغة كونية أي تكسر حواجز اللغات، ويمكن تحويلها إلى لعبة فيديو أو تصنيع ألعاب منها تسوّق في مطاعم الوجبات السريعة، وبهذه الطريقة تمكنت الاستوديوهات من تحقيق مليارات الدولارات، وبالتالي طغى الجانب المادي في السينما على الإبداعي.
ودخل الجانب التسويقي Marketability بقوة على السينما، وأصبح عاملاً مهيمناً يدخل في قرار تحديد شكل قصة فيلم ما، وهو يتعلق بتسويق الفيلم من خلال اسمه لو كان جزءاً من سلسلة شهيرة أو من خلال نجومه أو مخرجه، فأصبح التسويق من نصيب الأفلام الكبيرة، حيث عينت الاستوديوهات خبراء تسويق للترويج عن فيلم معين دون حاجتهم إلى مشاهدته، فعملهم جلب الجمهور للفيلم فقط، ولا يهم لو كان عملاً جيداً أو سيئاً.
وهنا نعود مرة أخرى إلى مقولة غودار الشهيرة: هل ماتت السينما؟ الأرقام منذ بداية الألفية حتى اليوم تشير إلى تنامي أرباح خزائن الاستوديوهات، والتقنية خلقت عوامل جذب للجمهور من الشاشات الضخمة وأحدث الأنظمة الصوتية إلى مقاعد وثيرة في صالات فخمة، وفي الوقت نفسه أصبحت الاستوديوهات تستهدف جمهور الإنترنت بتوفير الأفلام على صيغة تسمح بعرضها على شاشات أجهزتهم الذكية، ورغم وجود قراصنة الإنترنت وما سببوه من خسائر إلا أن الجمهور لايزال يذهب إلى الصالات.
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط. |
مستقبل السينما قد لا يكون السينما المتعارف عليها أول القرن الماضي، وهي الشريط السينمائي الذي يعرض صوراً متحركة، لكن بالتأكيد لا يعني موت السينما، حتى لو افترضنا أن الأفلام ليست هي التي نعرفها أو مثلاً عدم وجود مكان نشتري منه تذاكر لمشاهدة عرض ما، وهو التصور الأكثر تطرفاً، إلا أن هناك في هوليوود، وعواصم أفلام أخرى في العالم، استوديوهات تخطط لتلافي نهاية السينما.