الطبيعة تسيطر على "سينما" برلين

في النصف الأول من الدورة الـ67 من فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي، الذي يتنافس فيها 18 فيلما عالميا في المسابقة الرسمية ، تم الى اليوم عرض أكثر من 10 أفلام، شكلت حالة من التساؤلات عن غياب الكثير من أساسيات اختيار الأفلام المنافسة بشكل عام، مثل أفلام تحمل اسماء لمخرجين مشهورين أو بطولة نجوم في عالم السينما، لذلك عنصر الدهشة الكاملة من فيلم ينافس على الجوائز الرسمية لم تحدث الا قليلا ، خاصة مع فيلمين الأول للفيلم المجري جسد وروح والثاني للفيلم السينغالي فيليسيتيا لكن قبل الحديث عنهما لا بد من المرور قليلا على فيلم افتتاح الدورة الذي حمل عنوان "جانجو" للمخرج الفرنسي ايتيان كومار ، هذا الفيلم الذي شكل حالة فضول للمشاهدين سواء من النقاد او محبي السينما بشكل عام بسبب أنه لا يحمل بصمة مخرج مشهور أو انه من بطولة نجوم معروفين، فالفيلم هو التجربة الأولى لكومار ، وبطولة رضا كاتب الذي يؤدي شخصية جانجو.

مع هذا التعريف البسيط لبطاقة الفيلم ، نلمس أن مهرجان برلين السينمائي يؤكد كل عام أنه يبحث عن خلق عنصر المفاجأة والتساؤل حول ماهية خياراته، فتارة تكون خيارات مرتبطة بالسياسية، وتارة تتبنى قضايا اجتماعية وطبيعية، وتارة كما حدث هذا العام تشجع على العمل الأول للمخرجين.

لا شك أن الفيلم يحمل الكثير من العناصر التي بالفعل أهلته لأن يكون فيلم افتتاح، من أداء بطله الذي يلعب دور عازف جيتار محترف بالفطرة، ومرورا بنص متماسك أدى بدوره الى تماسك عناصر التطور الدرامي والبصري في كل الفيلم، مما ترك صورة متكاملة لا لبس فيها ، وخرج غالبية الجمهور مستمتعا بموسيقى مختلفة آتية من الغجر مع قصة حب دائمة وعابرة و السياسة التي لا بد منها خاصة أن أحداث الفيلم كانت في عهد النازيين.

من الممكن وضع نقطة القوة في الفيلم من ناحية الحبكة على قوة الموسيقى التي تنتصر على كل أنواع الاستبداد، وهنا نتحدث عن فترة حكم النازية ، هذا العازف الصعلوك الذي وصل صيت موسيقاه التي يعزفها باصابعين مشلولين ، استقطب العديد من النازيين ليسمعوه ويحاولوا أن يدعوه الى ألمانيا لاحياء حفل خاص، يحاول جانجو المعتز بنفسه التملص دائما من تلبية الدعوة .

الحيرة حاضرة بقوة في محاولة معرفة شخصية جانجو العابث و الصعلوك و الفنان في نفس الوقت، لكن من الواضح أن من تلمس الموسيقى أنامله لا يرضى أن يكون جزء من تصفيق حار من قبل مجرمي حرب مثل النازيين تفاصيل مهمة تأخذك اليها قصة فيلم جانجو ، تلاحقه في كل مشهد ، خاصة بعد أن رفض عرضا رسميا من الجيش الألماني، فتحول الى هارب عبر الغابات أملا في الوصول الى سويسرا.

ليست ممثلة لن تشعر أبدا أنك أمام ممثلة في الفيلم السينغالي فيليسيتيا للمخرج الان جوميس والذي يعتبر من أهم الأفلام التي تم عرضها في النصف الأول من المهرجان ، ويتحدث عن امرأة اسمها فيليسيتا، تعمل كمغية في احدى الحانات الشعبية في عاصمة الكونغو الديمقراطية كينشاسا، هذه المرأة التي مثلت دوره "فيرو بيا" لن تشعر أبدا أنها تمثل بل ستشعر أنها شخصية حقيقية، للقدرة التي تعدت الاعجاب بايصال كل مشاعرها بكل صدقية، حتى انك تبكي معها في كثير من المشاهد، وهي التي من الواضح أنها ضحت بحياة رفاهية عائلتها من أجل من تحب والذي بدوره خذلها ، تاركا لها ابنا سيتعرض الى حادث ، لتبدأ معه حكايات بلد كاملة من خلال امرأة ، فيليسيتا لا تبتسم طوال فترة الفيلم باستثناء الربع الأخير منه، هي بعد حادث ابنها عليها توفير مبلغ كي تنقذ قدمه من البتر، في ظل حكم يسيطر فيه الأغنياء والفاسدين على الفقراء حتى على صحتهم ، وبعد تتبع طريقة فيليسيتا في جمع المبلغ ستدرك أنك امام شخصية قوية وذات كرامة عالية، الا ان من تتعرض حياته الى الخطر ابنها الوحيد الذي من أجله اضطرت الى أن تذل نفسها الى شقيقها ، في كل هذا التخبط تظهر شخصية ظريفة في الفيلم تخلق نوعا من التوازن الذي يحتاج الى ضحكات في حضرة كل هذا البؤس الذي تكتمل معه الحالة ببتر قدم ابنها ، لتبدأ معها محاولة حياة جديدة ، ستكون فيه ابتسامة فيليسيتا حاضرة.

من السهل أن تقع في حب هذا الفيلم وفي شخصية فيليسيتا تحديدا، وستشعر فعلا أن مثل هؤلاء من يتمسك بالحياة أكثر بالفانتازيا من الملفت في الأفلام التي تم عرضها في النصف الأول من مهرجان برلين حضور الحيوانات كجزء أساسي في حبكة الفيلم ، مثل حضوره على سبيل المثال في الفيلم الألماني بوكتو للمخرج اغنيزيكا هولاند ، وهذا الحضور كان أيضا واضحا في الفيلم المجري "جسد وروح" والذي يعتبر من أفضل الأفلام التي تم عرضها الى اللحظة، وهو للمخرجة إيلديكو انييدي.

يحمل الفيلم حالة فانتازيا واضحة، لكن بعد التعمق بالحكاية أكثر ستحاول أن تميل الى اسقاط بعض الواقعية عليها، فحكاية الفيلم تحكي عن لقاء بين أثنين من خلال أحلام مشتركة يظهران في تلك الأحلام على شكل غزلان، يحاولان كل ليلة التقرب من بعضهما، وتشاء الصدفة أن تعمل البطلة في مسلخ الأبقار الذي يعمل فيه البطل ، غير مدركين في الربع الأول من أحداث الفيلم أن الحلم يجمعهما ، فهما يحلمان نفس تفاصيل الحلم كل ليلة.

تركيبة الفيلم فيها من العبقرية الكثير، فأنت بشكل يومي تراقب طريقة نحر الأبقار ، وترى بطبيعة الحال كمية الدماء التي تملأ المكان، في المقابل ثمة علاقة حب تنمو في الحلم، على شكل حيوانات ايضا، كل هذه التركيبة تجعلك كمشاهد يترقب كل الحكاية بشكل سلس كحالة ترقبك للعاشقين ، الذين يختلاف كليا ، فالرجل كبير في السن يعاني من شلل في يده ، متأني في تعاطيه مع الموظفين، أما هي عبارة عن شيئ اشبه بلوح الثلج لا حياة فيها بالرغم من صغر سنها وجمالها، وذكائها خاصة في حفظ التواريخ، شخصيات لا يمكن أن تتقابل فعلا الا بالأحلام وهذا الذي حصل.

طريقة معرفة انهما على نفس قدر الحلم ، وبعدها مراقبة محاولاتهم في تحويل الحلم الى حقيقة، كان كفيلا بأن يضع الفيلم ضمن توقعات قوية للحصول على أكثر من جائزة من بينها جائزة أفضل ممثلة.

 

الأكثر مشاركة