سيناريوهات الأفلام تحاكي ألعاب الفيديو
القرن الـ 21.. بزوغ حقبة السينما الـرقمية والخيالية في هوليوود
منذ التسعينات.. استمرت السينما السائدة في هوليوود في عملية تكييف نفسها مع مجموعة متنوعة من العوامل، بزغت منتصف التسعينات، أهمها كان الانتقال إلى الاهتمامات والممارسات الثقافية، التي نشأت في ظل ظاهرة العولمة التي سببتها وسائل الإعلام الجديدة في بداية القرن الـ21، متمثلة في إتاحة شبكة الإنترنت للعامة، وبزوغ ثورة المعلوماتية في شكل انتشار ظاهرة تملك الحاسوب الشخصي (لاب توب).
مسار معقد بدخول السينما الأميركية إلى القرن الـ21، فإنها باتت أمام مسار معقد، هو مناقشة هموم جمهورها المتنوع. وهيكل السينما الأميركية يتضمن أعمالاً تقدمية ومحافظة، وأعمالاً مزعجة، وأخرى ترفيهية، وأفلاماً تمزج النوعين معاً. بدخول القرن الـ21 أتمت هوليوود أكثر من 100 عام، نجت خلالها من كل التهديدات وتجاوزت التحديات، لأنها جزئياً أرضت مطالب جماهير متغيرة، فحاجة هؤلاء الأساسية إلى صناعة ترفيهية مفصلة لهم، هو ما جلب الأفلام من الخيال إلى الواقع، وحاجة الجماهير إلى التسلية هي التي تحكم التحولات التي تطرأ على صناعة السينما وتجربة مشاهدتها. |
وكان على هوليوود المنافسة، لكسب شريحة الجمهور من الفئة العمرية بين 12 و20 عاماً، وهم أولئك الذين يقضون أوقات التسلية على الإنترنت واستخدام ألعاب الفيديو. المنافسة كانت سهلة جزئياً، بسبب التغيير الهيكلي الذي طرأ على صناعة الأفلام التي امتدت أذرع الاستثمار منها، لتشمل الموسيقى وصناعة نشر الكتب واستحواذ بعض الاستوديوهات على قنوات الكيبل، ومحطات التلفاز الفضائية، وكذلك اشتراكات الإنترنت المصاحبة لبرمجيات تستخدم لأغراض الترفيه، تتضمن الأفلام والموسيقى وألعاب الفيديو.
منافسة هوليوود ضد الإعلام الجديد في شكل ألعاب فيديو وأقراص موسيقى مدمجة، وملفات «إم بي 3»، وشبكة الإنترنت، نتجت عنها تغييرات جذرية أصابت عمق صناعة السينما، وهي سيناريو الأفلام حيث أصبح التمييز صعباً بين الفيلم ولعبة الفيديو. ونجحت أفلام «البلوكباستر» في خلق ما عرف بـ«السوق التالية»، وهي أسواق متخصصة في استغلال وتحويل شخصيات الفيلم إلى منتجات للأطفال، ويتضمن ذلك عملية تحويل الفيلم إلى لعبة الفيديو، وهو ما ساعد في تمدد هوليوود بصناعة ألعاب الفيديو.
في نهاية عقد الثمانينات وبداية التسعينات، كانت أكثر ألعاب الفيديو شعبية هي تلك المقتبسة من أفلام مثل «روبوكوب» و«المبيد 2» و«حرب النجوم» و«الحديقة الجوراسية» و«الجميلة والوحش» و«علاء الدين». وتنضم إلى القائمة أفلام «لارا كروفت» (2001-2003)، وهي مقتبسة من لعبة فيديو، وكذلك «بوكيمون: الفيلم الأول» (إصدار اليابان 1998)، و«أمير فارس: رمال الزمن» 2010.
وفي الوقت نفسه بدأ التحول التدريجي في أفلام هوليوود من صنف «البلوكباستر»، حيث أصبحت سيناريوهات الأفلام تحاكي بصورة متزايدة سيناريوهات ألعاب الفيديو، في ظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السينما. مثلاً، فيلم «ثلاثي إكس» 2002، يبدأ بسلسلة اختبارات غير مترابطة من ناحية السرد القصصي، يجب على البطل (زاندر - فين ديزل) اجتيازها قبل أن يكون مؤهلاً لفعل المطلوب منه. ورغم إبلاغه مرات عدة بأن دوره انتهى، فإن زاندر يصر على مواصلة اللعب حتى يفوز.
في (نادي القتال)، للمخرج الأميركي ديفيد فينتشر، الخيال هو نتاج ضروري للتهميش الجماعي أو الشخصي، في الثقافة الرأسمالية المؤسساتية.
منافسة هوليوود ضد الإعلام الجديد في شكل ألعاب فيديو وأقراص موسيقى مدمجة، وملفات (إم بي 3)، وشبكة الإنترنت، نتجت عنها تغييرات جذرية. هوليوود ركزت قواها في مستهل القرن الـ21 في أفلام الخيال الجامح، وأصبحت المنتجة الرئيسة لأفلام (أنيميشن)، وأفلام الحركة الممزوجة بمؤثرات خاصة. 2000 فيلم «ميمينتو» يقاوم المنطق ويطلب نوعا جديدا من النشاط الذهني من مشاهده. 2007 فيلم «إنذار بورن النهائي» رسم سيناريوهات الحركة فيه بشكل يحاكي ألعاب الفيديو. 1939 فيلم»ساحر أوز يوضح الخط الفاصل بين الواقع والخيال بالنسبة للمشاهد والشخصيات. |
الأمر نفسه ينطبق على أفلام «مهمة مستحيلة» من ناحية تنفيذ مشاهد الحركة (الأكشن)، إذ أصبحت سيناريوهات تلك المشاهد تميل بشدة إلى اللامعقولية أو هي أقرب إلى نماذج سيناريوهات ألعاب فيديو (مشهد مطاردة القطار في نهاية الجزء الأول، ومشهد مطاردة الدراجات في نهاية الثاني، ومشهد التعلق والجري على «برج خليفة» بدبي في الرابع، ومشهد التعلق بطائرة شحن في افتتاح الجزء الخامس).
أيضاً فيلم «إنذار بورن النهائي» 2007 رسم سيناريوهات الحركة فيه بشكل يحاكي ألعاب الفيديو (مشهد هروب الصحافي بمساعدة جيسن بورن من محطة ووترلوو في لندن، وسط مراقبة لصيقة من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي أيه»، حيث يلعب بورن ضد عملاء الوكالة لعبة الاختباء والبحث باستخدام أجهزة إلكترونية حديثة، وأيضاً مطاردة أسطح المنازل المختتمة بمشهد قفزة بورن الرهيبة إلى شرفة شقة في طنجة التي تأثرت بها سلسلة أفلام أخرى مثل جيمس بوند).
وتشير بعض الدراسات، التي تناولت الفرق في التحول المنطقي في ترابط الأفكار بين الأجيال من منتصف القرن الـ20 إلى اليوم، أن العصر الرقمي أنتج «افتراضاً» أنماطاً فكرية جديدة شكلت منطقاً مجرداً ورمزياً ومنهجياً مفصولاً عن أي تجربة واقعية ومباشرة في العالم. مثلاً، جيل قراءة الكتب يستوعبون عملية السرد بطريقة منطقية أو قياسية أي بقياس الكلمة على الواقع. أما أجيال الكمبيوتر الجديدة فيستوعبون عملية السرد رقمياً، أي ينتقلون من شاشة إلى أخرى أو لقطة إلى أخرى دون الاكتراث بالرابط المنطقي أو الزمني بين مراحل الانتقال.
هذا النمط انعكس في السينما، حيث يمكن توقع حدوث أي شيء في بعض الأفلام دون تفسيره مسبقاً أو منطقياً، لأن السرد الرقمي هو العمود الفقري لسيناريو الفيلم، مثلاً في فيلم The Matrix أو «المصفوفة» 1999 البطل نيو «كيانو ريفز» يستطيع إعادة برمجة نفسه لعمل أي شيء، أو برمجة قصة وقوانين الفيلم أي أنه لو مات داخل المصفوفة فإنه يموت في الواقع، وهو يموت فعلاً ويعيد بعث نفسه.
المثال نفسه ينطبق على أفلام الأبطال الخارقين، الذين يتعرضون لكل شيء إلا الموت، وإن ماتوا يعاد إحياؤهم في سياق مغاير. بطريقة مشابهة فإن أفلام جيسن بورن عن عميل مخابرات سابق فاقد ذاكرته ويحاول استرجاعها لفهم ما يحدث له، الأفلام مشابهة إلى حد كبير لمنطق الألعاب من ناحية أن كل أفعال البطل هي ردود أفعال لما يحدث له، ولا يبادر هو بالتفكير في ما سيفعله.
ويعتبر فيلم «ميمينتو» 2000 نوعاً من انتقاد هذا المنطق، فبطله يعاني حالة فقدان ذاكرة قصيرة المدى، وينتقل مع الأحداث من خلال اللقطات إلى الأمام والخلف ساعياً إلى الانتقام، لكن الفيلم بأكمله يقاوم المنطق ويطلب نوعاً جديداً من النشاط الذهني من مشاهده، نشاطاً ذهنياً يتطلب قوة ذاكرة غير عادية وقدرات فائقة لإعادة بناء القصة بصورة منطقية، ومع كل خطوة إلى الخلف يستمر الفيلم في التقدم أماماً.
فيلم «برايمر» 2004، عن مهندس يخترع آلة زمنية، وعندما يفرط في العبث بها تأخذه إلى أزمان مستقبلية قريبة، يعجز هو عن فهم ما يحدث فيها، لأنه لا يتذكر ما قد فعله في الماضي وتسبب في تلك الأحداث التي يراها، رغم أنها تبعد أسابيع فقط عن زمنه الحالي، الفيلم يعتبر من أكثر أفلام السفر عبر الزمن جنوناً، ولا يمكن فهمه أبداً.
من ناحية أخرى، فإن هوليوود ركزت قواها في مستهل القرن الـ21 في أفلام الخيال الجامح، وأصبحت المنتجة الرئيسة لأفلام «أنيميشن» أو الرسوم المتحركة للأطفال، والأفلام الخيالية، وأفلام الحركة الممزوجة بمؤثرات خاصة. في الحقيقة، فإن مصطلح خيال يشمل كل الأصناف المذكورة مثل «العثور على نيمو»، و«الأسد الملك»، و«شريك»، و«مونسترز إنك»، و«راتاتوا»، و«سيد الخواتم»، و«هاري بوتر»، و«سبايدر مان» 2002-2007، و«ذا ميترسكس»، و«إنديانا جونز»، و«الحديقة الجوراسية»، و«المومياء»، و«حرب النجوم»، و«المبيد».
وكانت النتيجة أن أفلام الخيال احتلت المراكز الأولى، وهيمنت على قوائم أفضل الأفلام في الـ20 سنة الماضية، فقد احتل «آفاتار» الصدارة وتذيل «حرب النجوم: هجوم المستنسخين» القائمة عند المركز 30. أما الأفلام التي احتلت مراكز متقدمة في القائمة، لكنها تعتبر خارج تصنيف الخيال، فهي «تايتانيك» و«آلام المسيح» و«وفوريست غامب».
أفلام الخيال انقسمت إلى قسمين: الأول ركز على مزج الخيال بالواقع، أي وضع شخصيات خيالية خرافية بجانب بشر، مثل «حرب النجوم» و«سيد الخواتم» و«آفاتار» و«إكس من» و«المتحولون» و«باتمان» 2005-2012، وأخرى مزجت الخيال بالدراما مثل «أن تكون جون مالكوفيتش» و«رجال في بدلات سوداء» و«الحاسة السادسة» و«أليس في بلاد العجائب»، هذه الأفلام ركزت على فلسفة وفكرة تجاور أو توازي عالمنا الواقع مع آخر خيالي.
وتوازت مع موجة هذا القسم من أفلام الخيال موجة أخرى اندمجت معها سميت «الإيهام»، وفكرتها أن ما يظهر على الشاشة حقيقي، رغم أنه خيال وهو أفضل من الواقع، وتعود جذورها إلى فيلم «ساحر أوز» 1939، وهي في القرن الـ20 كانت توضح الخط الفاصل بين الواقع والخيال بالنسبة للمشاهد وشخصيات الفيلم. في القرن الـ21 تغير الوضع، وأصبحت أفلام الخيال المعاصرة ابتداء من «حرب النجوم» 1977 ترفض توضيح الخط الفاصل، وتمزج الخيال بالواقع بالنسبة للشخصيات والجمهور.
وديناصورات «الحديقة الجوراسية» واقعية كما شخصيات الفيلم، وكذلك المخلوقات الغريبة الناطقة في «حرب النجوم» 1977-2005، من ناحية أخرى أصبحت المخلوقات الخيالية أو الكيانات الخارقة للعادة في أفلام الأبطال الخارقين، و«الحاسة السادسة» و«الميل الأخضر»، تتدخل لتحل مشكلات البشر، أو لتدفع القصة إلى الأمام وهو ما لم يكن موجوداً في نظيراتها من الأفلام في القرن الماضي. بكلمات أخرى خيال هوليوود يعلم أن الحقيقة هي نتاج إتقان عملية الإقناع التي تقدم فيها.
وركز القسم الثاني على شخصيات مضطربة، توظف الخيال كمهرب لعجزها عن تحقيق أهدافها بنفسها. في «أن تكون جون مالكوفيتش» تستغل ثلاث شخصيات عقل مالكوفيتش لإشباع رغباتها المحبطة. وفي «اقتباس» يكافح تشارلي (نيكولاس كيج) لاقتباس كتاب لسوزان أورلينز لكتابة فيلم دون المخاطرة بمبادئه الفنية، أو الإخلال بعملية الاقتباس بالانحراف عن النص الأصلي. ويصر تشارلي على أنه لا يريد أن يصنع فيلماً نمطياً، كما تفعل هوليوود عن الجنس والمخدرات والأسلحة، أو عن شخصيات تتعلم دروساً من الحياة، وتتعلم محبة بعضها بعضاً، أو تتغلب على تحدياتها في النهاية، فالكتاب ليس كذلك ولا حتى الحياة، لكن في النهاية يعجز تشارلي ويحيد عن مبادئه ويتحول اقتباسه إلى كل شيء حاول تجنبه. ويظهر الخيال في محاولات تشارلي استخراج أفكار للاقتباس ليعكس نواقصه الشخصية وهمومه الرجولية، وأحاسيسه بانعدام الأمان ككاتب، ويتحول المشروع إلى نص نمطي كما تفعل هوليوود، ويصبح الخيال في النهاية غطاء للإخفاق الشخصي.
في فيلم Synecdoche New York لتشارلي كوفمان (أيضاً كاتب فيلم اقتباس المذكور آنفاً)، نرى كاتب مسرحيات كادن كوتراد (الراحل فيليب سايمور هوفمان)، يعيد تمثيل حياته بأدق تفاصيلها على مجسم لمدينة نيويورك في مستودع مع شخصيات من عائلته وحياته، ويؤدي أدوارهم بنفسه. وتتحول عملية إعادة التمثيل إلى هوس يتوج بمحو كوتراد نفسه من المجسم ما ينعكس على حياته الواقعية. مرة أخرى الخيال مربوط بالإخفاق الشخصي.
وفي «نادي القتال» للمخرج الأميركي ديفيد فينتشر الخيال هو نتاج ضروري للتهميش الجماعي أو الشخصي في الثقافة الرأسمالية المؤسساتية. فمن الخيال تستطيع شخصيات الفيلم تحمل عملية الحيونة التي تفرضها الثقافة الاستهلاكية في المجتمعات الحديثة في أميركا. جاك (إدوارد نورتون) موظف في شركة سيارات يعاني الأرق، وبدل إعطائه حبوباً منومة، يرسله الطبيب إلى مجموعة دعم مكونة من ناجين من سرطان الخصية. يتعرف جاك إلى بوب في تلك المجموعة، ويبكي في أحضانه ما ينتج عنه قدرته على نوم ليلة كاملة.
لكن عندما يلتقي جاك مع تايلر دوردن (براد بيت)، يدرك أن الأخير ضالته وأداته للخروج من تلك المجموعة من «ناقصي الرجولة» حسب الفيلم، فيكون معه تحالف استعراض عضلات ويؤسسان ما يعرف بـ«نادي القتال»، وهي منظمة سرية تجند المهمشين مجتمعياً لتنفيذ عمليات إرهابية ضد الرأسمالية.
بعد تأسيس النادي، تنفجر شقة جاك المؤثثة من محال آيكيا، ويتشرد الأخير ما يجبره على الالتحاق بعالم تايلر للمهمشين الثائرين. حسب الفيلم، إن حياة العمل والاستهلاك أصابت الرجل الحديث في المجتمع الأميركي بعجز نفسي، وهو تهديد ذكر لأول مرة في خطاب للرئيس الأميركي الراحل ثيودور روزفيلت (1901-1909)، الذي وصف أسلوب الحياة ذلك بالشاق. بعد ذلك يدخل جاك في حالة هلوسة عميقة، وينفصل إدراكه عن الواقع تماماً، بل إنه يعجز عن التمييز بين الواقع والخيال، وذلك بالتزامن مع تنفيذ منظمته عمليات إرهابية استهدفت رموز الرأسمالية في المجتمع الصناعي الأميركي. وهنا أيضاً الخيال مرتبط بالإخفاق الشخصي.
فينتشر يوظف الخيال مرة أخرى في «الحالة المحيرة لبنجامين بوتون»، عن أب يائس يحاول إعادة ابنه إلى الحياة باختراع ساعة تعمل بالعكس. فيولد طفله عجوزاً، ويمضي بشكل معكوس باتجاه طفولته وموته، فلا مهرب من الزمن، والفيلم كله عبارة عن وضع بنجامين في سجن زمني. أفلام كوفمان وفينتشر، وغيرهما، ترفض منهج توظيف الخيال للهروب من الواقع والخيال في النهاية مرتبط بالقدر، لكن في الواقع وبعكس ما نشاهد في أفلامها فإن هوليوود احتاجت إلى الخيال لتعيش!
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news