تغيّر عقليات الجماهير في القرن الـ 21
السينما والتقنية.. جولة جديدة من الصراع
فيما يبدو أنها جولة جديدة من الصراع بين التقنية والسينما نرى علاماتها واضحة أمامنا في هذه السنوات أكثر من أي زمن آخر. في الخمسينات ظهر اختراع التلفاز، وقال المنظرون إنه سيقضي على السينما، ولم يتمكن من ذلك، بسبب نجاح صناع الأفلام آنذاك في اختراع تقنيات، مثل سينما سكوب (الشاشة العريضة)، وصناعة الأفلام بطريقة لا يمكن مشاهدتها بها إلا في السينما، ما أعطى الناس سبباً للذهاب إلى الصالات المظلمة، ومشاهدة الأفلام على ذلك الوسط الذي بلغ نصف قرن في ذلك الوقت.
في الثمانينات تجدد الجدل بازدهار صناعة الفيديو وأشرطة«VHS»، لكن السينما آنذاك اخترعت «البلوكباستر»، الذي لا يمكن الاستمتاع به إلا في السينما. في التسعينات ظهر اختراع مشاهدة الأفلام على الأقراص المضغوطة ذات الجودة العالية «DVD»، التي لا تهترئ مع كثرة الاستهلاك، كما هي الحال مع أشرطة الفيديو، وتعيش مدى الحياة إن حافظ المستهلك عليها.
بعد عقد كامل، وفي منتصف العقد الأول من الألفية، برز ابتكار «Blu-ray»، وهو يمكّن المستخدم من مشاهدة الأفلام بجودة عالية الوضوح أكثر من أقراص الجيل السابق «دي في دي»، لكن استوديوهات الأفلام نفسها كانت هي التي تحتفظ بحقوق طرح أفلامها بتلك الصيغة، فلا يمكن التنافس بين منتجين تتحكم فيهما شركة واحدة. أيضاً في منتصف العقد الأول انتشر اختراع نظام المسرح المنزلي، وهو يعطي المستهلك تجربة شبيهة جداً بتلك التي يحصل عليها في صالات السينما، وبسعر معقول في بيته.
أفلام بالطلب
دفاع مزودو خدمة أفلام تحت الطلب يدافعون عن أنفسهم بالقول إن من حقهم استغلال الإنترنت في تطوير المنتج الترفيهي، وطريقة تقديمه إلى الجماهير، ويتفق الكثير منهم على أن هناك صناع أفلام جدداً يأتون إليهم، ويخبرونهم بأنهم شاهدوا أكثر الأفلام تأثيراً عليهم من خلال تلك الخدمات وليس في السينما. - كريستوفر نولان أكد أن «دنكيرك» فيلم لا يمكن مشاهدته إلا في الصالات ليشعر المشاهد بأنه منغمس. - تطور خدمات «نتفليكس» و«أمازون» و«هولو» زاد من حجم التهديد للسينما. |
لكن في العقد الثاني من القرن الـ21 بزغت تقنية جديدة، وهي طرح خدمة أفلام بالطلب عبر الإنترنت، أي بمجرد أن تطلبه يأتيك فوراً بصيغة رقمية دون الحاجة لخدمة الشحن. أيضاً تمكنت الاستوديوهات من احتواء هذا، إلا أن تطور هذه الخدمات التي جاءت بمسميات تجارية مختلفة ومتنافسة، مثل «نتفليكس» و«أمازون» و«هولو» زاد من حجم التهديد للسينما، فضلاً عن أن عقلية الجماهير في القرن الـ21 ليست مثل عقليات الأجيال التي سبقتها في العقود الماضية.
جماهير اليوم أو فلنقل مواليد القرن الـ21 نشأوا ملتصقين بأجهزة الهاتف الذكي، ما يعني أنهم لا يقدرون ولا يفهمون أهمية مشاهدة الفيلم على شاشته الأصلية، أو حيث يجب أن يعرض. هؤلاء (نتحدث عن الجماهير العالمية من هذا الجيل وليست الشريحة التي تعيش في الدولة فقط) لو ذهبوا إلى الصالات فهم لا يميزون الفرق بين خصوصية المكان مقارنة بأي مكان يشاهدون فيه الأفلام، سواء على هواتفهم الذكية أو أجهزة الكمبيوتر اللوحي «آي باد»، أو حتى شاشة الكمبيوتر المحمول.
هذا أدى إلى شيوع الفوضى في صالات السينما، خصوصاً أن هذه الشريحة أخذت تتحدث بصوت عال، وتتصرف بطريقة توحي بأنهم غير مهتمين بالفيلم بقدر اهتمامهم بما يرونه على شاشات هواتفهم (أثناء مشاهدة الفيلم)، وعدم مراعاة هؤلاء لخصوصية المكان أو إثبات أن لديهم أي تقدير واحترام للأفراد الآخرين الجالسين معهم في الصالة نفسها. هذا بدوره أدى إلى تبني بعض الناس فكرة التخلي عن السينما لمصلحة مشاهدة الأفلام بالوسائل الأخرى المذكورة هنا. ونضيف سبباً جديداً، ظهر أخيراً هو أن خدمات الفيديو تحت الطلب أصبحت، من باب التنافسية، تعقد اتفاقات مع استوديوهات الأفلام لطرح الأفلام عبر خدماتها، بالتزامن مع طرحه في الصالات، وهذه أصلاً أصبحت فكرة قديمة ومطبقة منذ أعوام على بعض الأفلام، التي يقدر الموزعون أنها لن تجتذب الجماهير، لكن الجديد هو زيادة سعر الفيلم عبر تلك الخدمة مقابل طرحه بعد السينما بأسبوعين.
المعروف أن الفيلم لو كان كبيراً وناجحاً فإنه يعيش في الصالات فترة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، وهذا ما أقلق صناع أفلام مرموقين، مثل كريستوفر نولان وصوفيا كوبولا الموجودين في معرض سينما كون في لاس فيغاس الأسبوع الماضي، ودفعهما إلى حث الجماهير على مشاهدة أفلامهما في الصالات، أو حيث يجب أن تشاهد.
نولان أطلق تصريحاته بعد عرض تقديمي عن فيلمه الجديد «دنكيرك»، وهو دراما تقع أحداثه في الحرب العالمية الثانية سيطرح هذا الصيف، وقال عن الفيلم إنه قصة لا يمكن مشاهدتها إلا في الصالات ليشعر المشاهد أنه منغمس، ويعيش في أحداث القصة، وهذا لن يتحقق دون عملية توزيع سينمائي.
كوبولا أيدت نولان أثناء عرض مقاطع من فيلمها The Beguiled، وهو إعادة من فيلم لكلينت إيستوود عن الحرب الأهلية الأميركية، من بطولة كولين فاريل ونيكول كيدمان. يحدث ذلك في فترة ازدهار خدمة أفلام فيديو تحت الطلب، وأيضاً في وقت أصبح فيه التنافس بين مزودي تلك الخدمات شديداً، إلى درجة أن «نيتفليكس» ومنافسها الجديد «أمازون» استثمرا بقوة في إنتاج أعمال أصلية، ما يعني أن العمل الأصلي سيعرض في الصالات وعبر الإنترنت في الوقت نفسه.
عرض نولان جاء في أعقاب تصريحات قطاع التسويق والتوزيع في الشركة المنتجة لفيلمه «وونر بروس» بأن ازدهار صناعة خدمة أفلام تحت الطلب أو المتدفقة عبر الإنترنت بات فرصة للاستغلال، خصوصا أن أذواق الجماهير أصبحت متغيرة، وذلك يحتم التغيير في طريقة أداء العمل في استوديوهات الإنتاج، فالجماهير اليوم تريد مشاهدة المحتوى الترفيهي عبر أكثر من خيار، وفي أي مكان. نولان رد على تصريحات شركته في المعرض نفسه بأنه غير مهتم بأي منصة عرض إلا السينما.
رئيس شركة «سوني بيكتشرز» توم روثمان، أيّد نولان بقوة أثناء عرض مقتطفات من الفيلم الجديد للشركة «بليد رانر 2049» من بطولة هاريسون فورد ورايان غوسلينغ، قائلاً: «نتفليكس هراء»، معدداً مميزات عرض الفيلم على الشاشة الكبيرة. من جهة أخرى، تدرس شركتا فوكس ويونيفرسال عرض أفلامهما عبر تلك الخدمات في المنازل، بعد أسابيع قليلة من العرض السينمائي، بهدف زيادة مبيعات وحدتي الترفيه المنزلي في الشركتين.
الصالة.. لن تموت
هناك حقائق قد نتفق عليها جميعاً، وهي أن الفيلم في صالة السينما لن يموت بالضرورة، بسبب وجود أشخاص كثيرين حول العالم يريدون مشاهدته في ذلك المكان، رغم توافره رقمياً، ولو قارنا السينما بالأوساط الترفيهية الأخرى سنجد أن الآلاف تحضر مباريات كرة القدم في الاستاد، رغم عرضها عبر محطات التلفزة في الوقت نفسه. ومعارض الألعاب الإلكترونية لاتزال تقام لعرض منتجات هي موجودة أصلاً في أسواق الألعاب، فلماذا تتأثر السينما وحدها لو عرض محتواها الترفيهي عبر خدمة الفيديو في الوقت نفسه؟
السبب أن هناك أشخاصاً سيتأثرون بشكل مباشر، وهم منظمو مهرجانات الأفلام والعروض الافتتاحية للأفلام المهمة، وكل من يعتمد على الصناعة كمصدر دخل سيتأثر حتماً بتنويع منصات عرض المنتج الترفيهي، لو تزامنت مع السينما. أما بالنسبة لصناع الأفلام المرموقين فلا أحد منهم سيقبل بأول عرض لمنتجه على شاشة صغيرة، حيث الانتباه مشتت جداً بين الكثير من عوامل الحياة العصرية الأخرى، مثل فتح البريد الإلكتروني، أو مشاهدة المنتج في السيارة أو الطائرة، وذلك حتماً لا يساوي ولا يقترب أبداً من تجربة مشاهدة الفيلم في صالة السينما، أو حيث يجب أن يعرض.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news