«السائق بيبي» يكتب تاريخاً جديداً لأفلام السرقة

عرضت صالاتنا، الشهر الماضي، فيلم Overdrive، وكان نسخة تعيسة من فيلم «السريع والغاضب»، الذي عرض بدوره في أبريل الماضي، وذكرنا أنه عن عصابة صعاليك تنقذ العالم. وفي 2010 كان هناك فيلم The Town أو «المدينة» لبين أفليك، وعام 2011 فيلم Drive أو «قيادة»، عن سائق يستغل مهاراته في تنفيذ عمليات المجرمين، وفي العقد الماضي شاهدنا سلسلة أفلام The Transporter أو «الناقل» بأجزائه المتعددة.

رفع سقف المنافسة

أفلام السرقة، وهي اتجاه فرعي في سينما الجريمة، زادت بكثرة وأصبحت تعتمد على الإبهار، كما في حالة «السريع والغاضب»، أو محاولة تقديم جديد فنياً، كما في حالة فيلم «قيادة»، أو دراما مؤثرة كما في «المدينة». فيلم «السائق بيبي»، يعتبر فيلماً مجدداً لهذا الاتجاه الفرعي؛ بل وسيرفع سقف المنافسة عالياً.

«السائق بيبي» هو أفضل فيلم سرقة منذ رائعة مايكل مان الملحمية بعنوان «حرارة»

كل هذا يقودنا إلى خلاصة هي أن أفلام السرقة، وهي اتجاه فرعي في سينما الجريمة، زادت بكثرة في الفترة الأخيرة، وأصبحت تعتمد على الإبهار كما في حالة «السريع والغاضب»، أو محاولة تقديم جديد فنياً، كما في حالة فيلم «قيادة»، أو دراما مؤثرة كما في «المدينة».

فيلم Baby Driver أو «السائق بيبي»، وهو عمل جديد واستثنائي بكل المقاييس، يعتبر فيلماً مجدداً لهذا الاتجاه الفرعي؛ بل وسيرفع سقف المنافسة عالياً.

القصة عن شاب لقبه بيبي (أنسيل إيغورت)، ويعمل كسائق هروب في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا الأميركية، لدى زعيم عصابة لقبه دوك (كيفن سبيسي)، وهو مخطط ومدبر عمليات السرقة. بيبي كان لص سيارات سابقاً، وبسبب سرقته سيارة تخص دوك، يعاقبه الأخير بتوظيفه للعمل لديه في تنفيذ السرقات وتسديد الدين.

بيبي فقد والديه في حادث سيارة، وتسبب الحادث في إصابته بطنين دائم في أذنيه، يعالجه بيبي بوضع سماعات جهاز «آي بود» وتشغيل موسيقى على مدار الساعة. في الوقت نفسه، فإن لدى بيبي هواية غريبة جداً، هي تسجيل أصوات الأشخاص المؤثرين الذين يلتقي معهم، واقتطاع جملة واحدة من أي حديث يسجله ليمزجها مع موسيقى، أو ما يسمى «ريمكس». بيبي يعيش مع والده بالتبني جوزيف (سي جي جونز)، ويتحدثان بلغة الإشارة بسبب إعاقة جوزيف.

قبل إحدى العمليات، يبلغ دوك بيبي بأن تلك العملية تسدد دينه، وبالتالي هو حر بعدها، في تلك الأثناء يتعرف بيبي إلى نادلة حسناء في مطعمه المفضل، اسمها ديبورا (ليلي جيمس من مسلسل داون تاون آبي، وبطلة فيلم سندريلا عام 2015)، ويقعان في الحب.

دوك حريص جداً في عمله، ولا يوظف الأشخاص أنفسهم مرتين، حتى لا ينكشف أو يلفت الانتباه، باستثناء سائقه بيبي، وبعد تنفيذ العملية بنجاح، رغم بعض المتاعب التي اعترتها، يبلغ دوك سائقه بأن الدين سُدد. يغادر بيبي العصابة ويعمل في محل بيتزا سائق توصيل، ويأخذ ديبورا لعشاء رومانسي في مطعم فاخر، وهناك يرى دوك مرة أخرى، فيطلب الأخير من بيبي تنفيذ عملية واحدة أخيرة، يرفض بيبي، فيقول دوك بصيغة تهديد واضح: هل تفضل القيادة خلف المقود أم على كرسي متحرك؟ فينصاع بيبي لرغبة رئيسه.

يجند دوك للعملية الأخيرة بادي (جون هام من مسلسل ماد من)، وزوجته دارلنغ (المكسيكية إيزا غونزاليس من مسلسل من الغسق إلى الفجر)، بالإضافة إلى باتس (جيمي فوكس). نعلم أن كل ما ذكرناه في القصة موجود في كل أفلام السرقة، لكن علينا فهم رؤية المخرج إدغار رايت، المرتكزة على فكرة توظيف المكرر (الكليشيه) لاستخراج الجديد منه، وسنشرح ذلك من خلال العوامل التالية:

العامل الأول: علينا أن نقر بأن هذا الفيلم يندرج تحت تيار السينما التجديدية في هوليوود، وهو تيار ظهر وبرز في هذا العقد، ويعمل في تضارب تام مع التيار الآخر المنافس، وهو المختص بتجميع شخصيات رئيسة (وحوش وأبطال خارقين) في عوالم خيالية.

الثاني: نعلم أن تيار العوالم الخيالية له ملايين المعجبين حول العالم، لكن علينا أن نعترف، وهذا مثبت بالحقائق، بأن التيار الأول (السينما التجديدية) استطاع التأثير في الثاني وليس العكس، أمثلة: «لوغان»، «ووندر وومان»، «سبايدر مان» (رغم سوء معالجته)، «الحرب لأجل كوكب القردة»، وهذا الفيلم.

الثالث: بيبي شاب في مقتبل العمر وليس مجرماً محترفاً، سائق بارع تنطبق عليه قوانين الفيزياء والجاذبية الأرضية ولهذا السبب نهتم به. يقود سيارته ببراعة لكنه يخطئ كثيراً ويصحح خطأه، ولا نراه يدفع صاروخاً بيده، ولا يقفز فوق غواصة بسيارته!

الرابع: بيبي لا يستطيع تنفيذ أي عملية دون الاستماع إلى الموسيقى، بل إن توقيت انطلاقه بالسيارة يجب أن يبدأ مع بداية أغنية معينة، وكل حركة ينفذها بالسيارة متماشية مع نغمات أغانيه. الخامس: الفيلم يُروى من وجهة نظر بيبي، وعلى عكس كل أفلام السرقة السابقة، نحن نشاهد القصة من وجهة نظر بيبي فقط وليس أعضاء العصابة، مع أن المخرج رايت كسر هذه القاعدة في مشهد واحد.

مثلاً، كلما دخل أفراد العصابة المكان المستهدف فإن الكاميرا لا تلحق بهم، وإنما تبقى مع بيبي في سيارته، ونراه مندمجاً مع أغانيه ويتابع ما يحدث من بعيد. لكن المشهد الوحيد الذي كسر القاعدة اضطر بيبي فيه إلى سرقة سيارة (أي انتقل من متفرج إلى منفذ فعلي)، سلط المخرج رايت الكاميرا على الضحية لتتابع هي ما يفعله بيبي، بكلمات أخرى نحن تبادلنا المواقع مع بيبي، كنا نشاهد السرقات معه وأصبحنا نشاهده هو، وهو تبديل رائع ومنسجم تماماً مع تركيبة سيناريو الفيلم.

السادس: المخرج رايت يوظف اللقطات الطويلة جداً، والمونتاج السلس الدقيق المدعم بموسيقى وأغانٍ مختارة بعناية، ما أضفى على الفيلم لمسة إبداعية قلما نجدها في أفلام اليوم، أي أن التصوير والمونتاج عنصران لبناء وسرد القصة، وليس العكس كما الفوضى العارمة في فيلم «المتحولون: الفارس الأخير».

السابع: الفيلم يحوي مطاردات رهيبة وشخصيات مثيرة للجدل والاستكشاف، تستحق أن تكون في فيلم وحدها مثل شخصيات بادي ودارلنغ وباتس. الزعيم دوك مخيف ويذكر بأمجاد سبيسي في تسعينات القرن الماضي، خصوصاً شخصية زعيم العصابة المرعب كايزر سوزيه، التي تقمصها في فيلم «المشتبهون المعتادون» عام 1995.

الثامن: حتى الشخصيات الهامشية أدت أدوارها بشكل جيد جداً، مثل ليلي جيمس وموظفة البريد، وهذا يدل على أن رايت اختار ممثليه بعناية شديدة، وكتب حواراتهم بشكل ممتاز. والفيلم الوحيد الذي فعل ذلك، العام الماضي، كان Hell or High Water، وهو أيضاً فيلم سرقة.

في العقود الثلاثة الماضية، برع صانع الأفلام الأميركي ديفيد ماميت في أفلام السرقة والاحتيال، لكن «السائق بيبي» كما أسلفنا قلب المعادلة بابتكار أسلوب جديد كلياً لعرض فيلم سرقة.

«السائق بيبي» هو أفضل فيلم سرقة، منذ رائعة مايكل مان الملحمية بعنوان Heat أو «حرارة» عام 1995، قد تكون المقارنة ظالمة، نظراً لغزارة وغنى مادة فيلم «حرارة»، إلا أنهما يشتركان في سمة هي كتابة تاريخ جديد لأفلام السرقة.

الأكثر مشاركة