«مكان هادئ».. أفضل فيلم رعب صامت منذ العشرينات

من مفارقات السينما أن كل تطور تقني يدخل عليها يمنحها ميزة ويفقدها أخرى، بدأ الأمر آخر عشرينات القرن الماضي عندما دخل عليها الصوت، وزلزل كيان السينما الصامتة، وغيّر وجهها بشكل كامل، وأرسل العديد من نجومها إلى التقاعد مقابل منحها الصوت.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط. • رسالة محددة حوارات الفيلم المسموعة تستخدم بشكل خاص لإيصال رسالة محددة إلى المشاهدين عن ضرورة تولي الوالدين واجباتهما تجاه حماية الأبناء والعائلة من الأخطار. صحيح أننا شاهدنا كل ذلك من خلال الفيلم نفسه، لكن جملة «إيفيلين» القوية ترسخ في الأذهان: «إذا كنا عاجزين عن حمايتهم، فمن نكون». واختيار كراسنسكي لتلك العبارة لتكون في حوار مسموع تأكيد لأهمية تلك الرسالة. • 1920 العام الذي ظهر فيه «ذا كابينيت أوف د.كاليغاري» أول فيلم رعب صامت مهّد طريق أفلام هذا الصنف في العشرينات. • فيلم صامت استثنائي يعتمد على فكرة فريدة، وهي تعرّض الأرض لهجوم وحوش عمياء تفترس البشر بتتبع أصواتهم.

الصوت أعطى السينما الحوارات المسموعة وغيّر أساليب كتابة السيناريو، وأثّر سلباً في ميزة سرد القصة بالكاميرا، وعندما تطور أصبحت لدينا مؤثرات سمعية مبهرة.

دخل الكمبيوتر وأحدث زلزالاً من نوع آخر، ولولاه لما تطورت سينما الخيال العلمي، والأنيمشن، والقصص المصورة (الكوميكس)، بالشكل الرهيب الذي نراه اليوم؛ لكنه من جهة أخرى وأد الكثير من المشروعات الواعدة، لأن استوديوهات هوليوود تفضل نموذج الأفلام المربحة.

نقول ذلك لأننا أمام فيلم استثنائي، A Quiet Place أو «مكان هادئ» فيلم صامت يعتمد على فكرة فريدة جداً من نوعها، وهي تعرّض الأرض لهجوم وحوش عمياء تفترس البشر عن طريق تتبع أصواتهم.

يتبع الفيلم مجموعة من الأفلام المبنية على أفكار فريدة من نوعها في السنوات الماضية، كان أهمها It Follows عام 2014 وCoherence في 2013، الأول عن شبح ينتقل عن طريق الاتصال الجنسي (يرمز لمرض الإيدز وغيره)، والثاني عن مذنب يضرب الأرض فتصاب بالازدواجية، وكل عنصر على الأرض تكون له نسخة طبق الأصل من نفسه، بمن فيهم البشر، المخيف أنه ليست كل نسخة بالضرورة طيبة مثلاً كأصلها.

بالإشارة أو بالهمس

تقع أحداث «مكان هادئ» في مدينة نيويورك في عالم ما بعد الدمار الشامل، إذ تبدو كمدينة أشباح. عائلة تحاول النجاة بنفسها، الأب لي (جون كراسنسكي) وزوجته الحقيقية، وفي الفيلم، إيفيلين (إيميلي بلنت)، وأبناؤهما ماركوس (نوح جوب) والصماء ريغان (ميليسنت سيموندز- وهي أيضاً ممثلة صماء في الحقيقة). والأصغر بيو (كيد وودوارد). يتواصل أفراد العائلة بلغة الإشارة أو الهمس أحياناً، حتى لا يضطروا إلى الحديث بصوت مسموع فتسمعهم الوحوش وتقتلهم.

نفهم أن إصدار صوت في ذلك العالم شيء يودي بالحياة، ويتعاظم الخطر عندما يجد الابن الأصغر لعبة تصدر صوتاً، فنرى وحشاً يجري بسرعة رهيبة في الجوار متجهاً إلى مصدر الصوت، ونرى هجمة شرسة لا تحمد عقباها. يمرّ عام كامل والعائلة لم تتعافَ من هجمة الوحش، ونرى الأم حاملاً وتتحضر لموعد ولادتها، بينما الأب يقرأ الصحف، ويبحث عن سبيل للقضاء على تلك الوحوش التي نعلم أنها عمياء، لكنها تتمتع بحاسة سمع رهيبة توظّفها في الوصول إلى فرائسها. والسؤال: كيف ستدخل الأم المخاض دون صوت، وكيف سيفهم الرضيع أن مجرد بكائه سيعرض العائلة للخطر؟

تحديات

مخرج الفيلم وبطله وكاتبه جزئياً، كراسنسكي، يضع لنفسه التحديات ويتغلب عليها، وهذا أجمل جانب فيه. كراسنسكي يتعمد تقييد نفسه، ثم يستعرض أمامنا أذكى الطرق للتخلص من قيوده، بمعنى أن الرجل وضع شخصية صماء ليزيد التحدي، واكتفى بلغة الإشارة وترجمتها على الشاشة، وبهذه الطريقة أجبر نفسه على توظيف الصورة فقط في سرد القصة مع القليل من المؤثرات السمعية.

مثلاً؛ نرى بندقية أو مسماراً بارزاً على الأرض أو ساعة منبه، وهذه الأدوات بمجرد النظر إليها نسمع أصواتها في أذهاننا، وتالياً نترقب ما سيحدث في الدقائق المقبلة، وهنا تكمن روعة هذا الفيلم. كراسنسكي يعلم تماماً ما يفعله، ولا يستخدم ما يمكن اعتباره مشاهد مبتذلة من أفلام سابقة. البندقية تستخدم لكن ليس في التوقيت الذي يتوقعه المشاهد، وكذلك المسمار والمنبه استخدما في توقيت وأسلوب صحيحين؛ ما ساعد على بناء جو من التوتر يخرج من الشاشة إلى قلوب المشاهدين، وهذا كله بسبب عدم وجود حوار مسموع سوى في مشهدين. هل ستصرخ إيفلين عند دخولها المخاض؟ نعم، هل سيبكي الرضيع؟ نعم، لكن ليست الصرخة المهمة، بل كيف يتخلص كراسنسكي منها إخراجياً، ويعبر إلى المشهد التالي.

أكثر إبداعاً

يمثل الفيلم ما يمكن تسميته سينما صامتة حديثة، أو قليلة الحوارات بشكل لافت، كان أبرز مثال عليها فيلم The Artist عام 2011 الحائز أوسكار أفضل فيلم عن ذلك العام وAll Is Lost عام 2013، لكن ما يميز «مكان هادئ» أنه أكثر إبداعاً واستعراضاً من الفيلمين السابقين.

فيلم The Artist كان صامتاً تقليدياً يحمل كل سمات أفلام العشرينات صنع في الزمن الحديث. فيلم All is Lost كان قليل الحوارات وليس صامتاً بشكل كامل، أما «مكان هادئ» فهو أول فيلم يقيّد نفسه بوضع تحديات ليستعرض قوة سرد القصة من دون حوارات مسموعة، لكنها مكتوبة أمامنا على الشاشة بشكل حديث لم يسبقه إليه فيلم من قبل، لذا فهو يمثل سينما صامتة حديثة في القرن 21. لو اعتبرنا فيلم «ذا كابينيت أوف د.كاليغاري» عام 1920 أول فيلم رعب صامت مهّد طريق أفلام هذا الصنف في العشرينات، فإن «مكان هادئ» ربما يمهّد الطريق لسينما رعب صامتة حديثة. «مكان هادئ» أفضل فيلم رعب صامت منذ العشرينات، ومن المتوقع أن يكون أفضل فيلم رعب هذا العام، رغم أننا مازلنا في البداية، لكن صمته سيكون أقوى من كل أفلام الرعب الصاخبة التي سنشاهدها، وهي أفلام رعب دأبت على الزعيق والضجيج وإغراقنا في ثرثرة عن قصة أصل كل شبح وشيطان يظهر أمامنا. «مكان هادئ» فعل العكس، أخبرنا القصة بصمت صاخب، ولهذا سنتذكره دائما وأبداً.. هذا الفيلم ذكي وتحفة ويستحق المشاهدة.