«كتاب أخضر».. قوة الأداء تطغى على مَوَاطن الضعف
يعد فيلم Green Book، أو «كتاب أخضر»، منافساً قوياً على جوائز أوسكار هذا العام، التي ستعقد في فبراير المقبل، لأنه يأتي في حقبة انقسام الدولة الأميركية سياسياً على أمور كثيرة، منها العلاقات العرقية بين البيض والسود.
- هل سيُعيد التاريخ نفسه ويفوز «كتاب أخضر» بالأوسكار كما فعل «توصيل السيدة ديسي» منذ ثلاثة عقود؟ في الفيلم معادلة معروفة، ويذهب بالاتجاه الذي يتوقعه المشاهد دون أي مفاجآت، لكن ما يميزه أداء بطليه. |
«كتاب أخضر» لا يحمل جديداً من الناحية التكوينية، فهو عمل هجين من نوع فيلم «صحبة» buddy و«فيلم طريق» road movie، يجمع بين شخصيتين متناقضتين تتعرفان إلى بعضهما بعضاً خلال رحلة تعلمهما معنى الصداقة والوفاء، وتمرّان بتجارب قاسية، تجبرهما على الاعتماد على بعضهما بعضاً.
تجري أحداث الفيلم، وهو مقتبس عن قصة حقيقية، في نيويورك، وتنتقل إلى الجنوب الأميركي عام 1962، حيث لاتزال العنصرية المقيتة وقتها تسكن قلوب الأميركيين. نرى توني ليب (فيغو مورتينسن) الأميركي من أصل إيطالي يبحث عن وظيفة، بعد أن فقد عمله حارساً في ملهى ليلي أغلق بسبب الصيانة.
يُبلّغ توني عن وظيفة شاغرة كسائق لدى الدكتور دون شيرلي (ماهرشالا علي)، عازف بيانو شهير. يذهب توني إلى المقابلة ويخفق فيها بسبب اصطدام ثقافته وأطباعه بثقافة وأطباع (دون)، فالأول غير متعلم وشوارعي، والثاني راقٍ ومتحضر جداً، رغم ذلك يقرر (دون) تعيين توني بسبب سمعته الطيبة بين الناس كرجل وفي، وينجز عمله على أكمل وجه رغم جلافته.
يحصل توني على نسخة من «الكتاب الأخضر» من الاستوديو المنتج لموسيقى (دون)، والكتاب دليل إرشادي عن الأماكن التي يستطيع السود ارتيادها في الجنوب الأميركي، الذي يطبق الفصل العنصري آنذاك.
أثناء الرحلة يتصادم توني ودون بسبب اختلاف ثقافتيهما، توني لا يشعر بالارتياح جراء الانتقاد المستمر من دون لتصرفات الأول الفظة، مثلاً توني يدخن في السيارة، وعندما يطلب منه (دون) رمي السيجارة لأنه يشعر بالاختناق، يعلق توني بعبارة مضحكة لشدة غبائها وهي: إذا كان الدخان يدخل صدري فكيف تختنق أنت!
مثال، يأكل توني دجاجاً مقلياً في السيارة، ويناول (دون) الجالس في الخلف قطعة دجاج ويلح عليه أن يأكلها، وعندما يسأل الأخير كيف يتخلص من العظام المتبقية، يفتح توني النافذة بكل بساطة ويلقيها في الخارج.
تتخلل الرحلة مواقف توطد العلاقة بين (توني) و(دون)، منها عندما يتعرض (دون) لمأزق مع شباب من البيض ويتدخل توني لمصلحته، ومواقف عديدة جعلت توني يتعاطف مع الرجل الأسود الذي يصطحبه في تلك الرحلة، التي غيرت أفكار توني النمطية عن العرق الأسود.
«كتاب أخضر» هو نسخة من الفيلم الشهير Driving Miss Daisy أو «توصيل السيدة ديسي»، الحائز أوسكار أفضل فيلم عام 1989، لكن بالمقلوب، إذ كان السائق في ذلك الفيلم أسود (مورغان فريمان)، وسيدته بيضاء (الراحلة جيسيكا تاندي)، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى أول السبعينات. هنا بالعكس، السيد أسود والسائق أبيض والأحداث في شهرين من 1962.
يستمد «كتاب أخضر» قوته من موجة المواقف السياسية الصحيحة التي اكتسحت أميركا في حقبة الرئيس السابق، باراك أوباما، فلو كان السائق أسود لهوجم الفيلم بسبب نمطية الفكرة، لكن نجاح الفيلم من الناحية النقدية كان بسبب قلبه الفكرة، ليجعل السائق أبيض والسيد أسود، بمعقل التمييز العنصري في الستينات.
هيكل الفيلم معادلة معروفة، ويذهب بالاتجاه الذي يتوقعه المشاهد دون أي مفاجآت، لكن ما يميزه هو أداء بطليه مورتينسن وعلي، والأول خصوصاً. يستخدم مورتينسن لهجة أميركية إيطالية ويبرز كرشا، وهذا نقيض شخصية آراغورن التي تقمصها في ملحمة «ملك الخواتم».
توني لديه سمتان: مزاج عصبي عند الاستفزاز لدرجة الضرب، ومقدرة عجيبة على الخداع عند الوقوع في المآزق. (دون) مثقف متزن رزين ويخبئ أسراراً وجروحاً في داخله. ينفجر (دون) في مشهد ماطر عندما تنهكه قساوة المواقف فيقول إنه مرفوض في مجتمع السود لأنه راقٍ كثيراً بالنسبة لهم، ومرفوض في مجتمع البيض لأنه أحقر من أن يملأ أعينهم.
من أجمل مشاهد الفيلم عندما تطلب دولوريس (ليندا كاردينيلي)، زوجة توني، منه أن يكتب لها رسائل خلال فترة تغيبه مع (دون). عندما يقرأ (دون) الرسائل يُصدم من ركاكتها ويقرر إملاء الرسائل على توني. عندما تقرأ ليندا الرسائل تفاجأ بارتفاع مستوى البلاغة، الطريف أن دولوريس تستمتع بقراءة رسائل زوجها، بينما هو يكتب ما يمليه عليه (دون) من غير أن يفهمها.
الفيلم من إخراج بيتر فارلي (أخرج فيلم «هناك شيء عن ميري» عام 1998، و«غبي وأغبى» بجزئيه، والكثير من الأفلام الكوميدية)، وشارك في كتابته مع نيك فاليلونيا ابن توني في الواقع. لذلك لا غرابة أن الفيلم يروى من وجهة نظر الرجل الأبيض. وذلك لا يعني إجحافاً بحق (دون)، لكن الفيلم يكشف توني بشكل أفضل، ما كان له تأثير حتى في الأداء، فبرز مورتينسن بشكل أكبر من علي. وتالياً حتى في نهاية الفيلم، شاهدنا كل جوانب شخصية توني بينما بقيت جوانب من شخصية (دون) طي الكتمان.
لكن اللافت أن بيتر يعمل وحده هنا، وليس بالشراكة مع أخيه بوبي كما جرت العادة، واللافت أكثر جنوح بيتر للدراما الجادة الأوسكارية بعيداً عن أجوائه المعروفة بالكوميديا التهريجية. من أقوى عناصر الفيلم تمثيله وتطور شخصيات بطليه، والتناغم والانسجام التام بينهما، وهذه طغت على كل عيوبه التي كان أبرزها الصراحة الشديدة، والابتعاد عن الإشارة أو الإيحائية، إضافة إلى شيطنة العنصر الأبيض.
الفيلم مليء بمواقف عن العنصرية البغيضة في مدن الجنوب الأميركي، من متنمرين بيض يضربون (دون) في حانة لإجباره على غسل الصحون، إلى أفراد شرطة متعصبين يحتقرونه، إلى مديري مطاعم لا يسمحون له بالأكل مع البيض أو بدخول حمامات البيض. هذه كلها مشاهد مكررة من عشرات الأفلام الأخرى التي طرحت الموضوع نفسه ابتداء من ولاية أوباما الثانية.
لا نبرئ البيض الجنوبيين في أميركا ذلك الوقت، لكن ما يفعله الفيلم هو شيطنة تامة لشريحة كبيرة من الشعب الأميركي، وتالياً الوقوع في فخ النمطية بالنسبة للطرف الآخر من المعادلة، وهم الأفراد الذين يتعامل توني و(دون) معهم.
يذكر أن فارلي استعان بشبيه لعلي في مشاهد عزف البيانو، ما يدل على أن الأخير لم ينخرط بالضرورة في دروس بيانو من أجل الدور. هذا من أفضل أفلام العام لكن نتساءل: هل سيعيد التاريخ نفسه ويفوز «كتاب أخضر» بالأوسكار كما فعل «توصيل السيدة ديسي» منذ ثلاثة عقود؟ لايزال من المبكر الإجابة، لكن فيغو مورتينسن حتماً يستحق الأوسكار على هذا الدور وهو أفضل أدواره حتى الآن.