«أول بقرة».. بساطة القصة لا تواكب حجم الفنيات
فيلم First Cow، «أول بقرة» من تلك الأفلام التي تتمتع بقصة أساسية أفضل من الفيلم كعمل متكامل. هذا فيلم يحمل بصمة مخرجته كيلي ريكارت، لو كان المشاهد خبيراً بأفلامها فسيميز هذا الفيلم من أول 10 دقائق حتى دون الحاجة لقراءة اسم المخرجة.
هذا فيلم فني بالدرجة الأولى وليس تاريخياً كما تقول بطاقته التعريفية، هو دراما تاريخية كتصنيف لكن فنيات المخرجة تطغى على كل شيء فيه، لدرجة تجريد الفيلم من أي عناصر مثيرة في القصة لصالح الفن.
النتيجة أن الكثير من المشاهدين لن يستطيعوا إبقاء أعينهم مفتوحة طوال ساعتين أقرب إلى سنتين من مدته. نعم قد ينام المشاهد من شدة الهدوء والبطء الشديد في الأحداث وقد يجري مكالمة هاتفية أو يرد على رسالة «واتس أب» دون أن يحدث شيء مهم. بكلمات أخرى، هذا الفيلم لا يتطلب انتباهاً كاملاً إلا من المشاهد المتأمل وليس التقليدي الباحث عن فيلم للاستهلاك.
هذه مشكلة لدى ريكارت وموهبة في الوقت نفسه، هي موهبة لأننا في عصر مليء بالأفكار المستهلكة المكررة ونبحث عن فكرة أصلية، وهي مشكلة لأنه رغم أصالة الفيلم إلا أنه لا توجد به قصة تقريباً وإن وجدت فلا يوجد تشويق أو سبب للاهتمام بأي شيء. وبدلاً من ساعتين بلا حوارات أو شيء مهم كان من الأفضل قطع 40 دقيقة منه والإبقاء على 80 دقيقة كافية لسرد هذا النوع من القصص.
كتبت ريكارت النص مع جوناثان رايموند وهو مؤلف الرواية المقتبس منها الفيلم بعنوان The Half Life، «نصف الحياة». يبدأ الفيلم بلقطة عريضة طويلة جداً لسفينة شحن كما تبدو من الشاطئ. الزمن هو الوقت الحالي، واللقطة تقول لنا إن الفيلم سيكون بطيئاً كما سرعة السفينة في البحر.
ثم نرى كلباً يحفر شيئاً، تدخل مالكة الكلب إلى اللقطة ويشد انتباهها شيء ما لا نراه، فتقرر أن تحفر بنفسها مع الكلب. تستمر الفتاة في الحفر ولا نعرف ما الذي سيظهر لكن في مقدمة اللقطة نرى شكلاً يشبه صخرة بيضاء يتضح في ما بعد أنها جمجمة.
لا تفعل ريكارت أي شيء متكلف لجذب انتباهنا، لكن أعيننا تتجه مباشرة إلى الجمجمة! بل اثنتين، مع هيكلين عظميين كاملين في وضعية استلقاء جنب بعضهما بعضاً. كيف وصل الهيكلان إلى هنا؟ ولمن يعودان؟ مقدمة جيدة لكن الإجابة عليها دفع ثمن الجلوس أمام الشاشة لساعتين كاملتين في مشاهد استرجاعية تشكل 95% من الفيلم.
وعندما نعلم من هما الشخصان، فإننا حتماً نعلم إلى أين يتجه الفيلم. باستثناء مشهد المقدمة الواقع في الزمن الحالي، فإن بقية الفيلم تقع في ولاية أوريغون شمال غرب الولايات المتحدة في القرن 19 وتحديداً في عشرينات ذلك القرن.
بمجرد أن نتعرف إلى الشخصيات وتبدآن في التحدث عن خططهما المستقبلية فإننا في قرارة أنفسنا لا نهتم بالحوار لأننا نعلم أن شيئاً من هذا لن يحدث، ما سيحدث هو اكتشاف قبر قليل العمق من قبل فتاة وكلب بعد 200 عام في المستقبل!
وهذا مؤسف لأن البداية مثيرة للاهتمام وكذلك طريقة ريكارت في عرضها والقصص التي حدثت في ذلك الزمن في هذا الجزء من الأراضي الأميركية كانت ملحمية ومتنوعة بتنوع البشر هناك.
نرى كوكي (جون ماغارو) رجل مهذب وطباخ موهوب، وكينغ لوو (أوريون لي) مهاجر صيني يبحث عن ثروته. كل واحد منهما يتمتع بسمات لا توجد في الآخر، وتتكون بينهما صداقة.
في يوم ما يلاحظ كوكي أن جاراً غنياً (توبي جونز) يمتلك بقرة، وهي الأولى في المنطقة. وبدأ يفكر في الأشياء الجميلة التي قد يحصل عليها من تلك البقرة، فسيستطيع أن يخبز باستخدام الحليب. يقترح كينغ عليه أن يتسللا معاً إلى فناء الجار الغني منتصف الليل ويحلبا البقرة.
وبهذه الطريقة يتحول كوكي وكينغ إلى «جولي روسو وشيلا لوكينز» لمقاطعة أوريغون، والأخيرتان طباختان شهيرتان في نيويورك في السبعينات والثمانينات.
صداقة الرجلين من أفضل عناصر الفيلم ومقنعة جداً من منظور ريكارت لكنها ليست بالضرورة واقعية، وبالطبع معاكسة تماماً لرؤية التقليدي الراحل جون فورد مثلاً، نتحدث عن صداقة رجل أبيض برجل آسيوي في الغرب الأميركي، وعندما نقول منظور ريكارت فنعني أنها تنظر إليهما نظرة معاصرة تقدمية وليست تقليدية.
في القصة، كوكي يعمل طباخاً لدى صيادي فراء، وعندما يذهب إلى الغابة بحثاً عن فطر، يجد كينغ مرتجفاً مختبئاً هارباً من روس يريدون الانتقام منه لقتله رجلاً منهم قتل صديقه. في أغلب الأفلام التي تدور في ذلك الجزء من أميركا أو في ذلك الزمن فإن القصة الرئيسة ستكون حول هذه الجزئية تماماً.
لكن ريكارت لها رأي ورؤية أخريين وليست مهتمة بهذا الجانب التقليدي جداً من وجهة نظر تقدمية، بل ترى الموضوع من ناحية صداقة تتحول إلى علاقة تجارية. كينغ يدير العملية وكوكي يصنع عجائب الطعام متى ما توفرت له المقادير، ويصنعان بفضل حليب البقرة المسروق ألذ بسكويت وكعك بالعسل، يتهافت عليه المسافرون عبر تلك الأراضي إلى درجة الازدحام ونفاد الكميات.
نتساءل: من يروي هذه القصة؟ هل هو مؤلفها، أم أنها في خيال الفتاة التي وجدت الهيكلين؟ الرواية حسب الكاتب تعطي مساحة متساوية للزمنين لكن الفيلم لا يعطي الوقت الحالي سوى مشهد البداية.
لا حاجة لنا لذكر النهاية ولو ذكرناها لن نفسد شيئاً لأن الفتاة تعثر على هيكلين في البداية وآخر مشهد نرى كوكي وكينغ مستلقيين بجانب بعضهما في وضعية الهيكلين.
تحوي هذه القصة كثيراً من الرموز التي قد تحمل تفسيرات عدة، وهي بسيطة جداً ومجردة بالنسبة لفيلم ساعتين غني بالفنيات، وفي الوقت نفسه من الممكن سردها دون مشهد المقدمة الذي يفقد قيمته بمجرد التعرف إلى الشخصيتين. ولو نقلت ريكارت المقدمة إلى نهاية الفيلم وكتبت: «بعد 200 عام» لربما كان للقصة وقع أكبر في أنفسنا.
لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.
هذا الفيلم لا يتطلب انتباهاً كاملاً إلا من المشاهد المتأمل وليس التقليدي الباحث عن فيلم للاستهلاك.
بدلاً من ساعتين بلا شيء مهم كان من الأفضل قطع 40 دقيقة والإبقاء على 80 كافية لسرد هذا النوع من القصص.