«بلفاست».. كينيث برانا يعود إلى الوطن
كتبنا عن فيلم «ليكوريش بيتزا» الأسبوع الماضي، وذكرنا أنه من تجارب طفولة مخرجه بول توماس أندرسون، واليوم نأتي إلى فيلم «بلفاست» الذي يعود فيه صانع الأفلام البريطاني كينيث برانا إلى الوطن.
في «بلفاست» يسرد برانا معايشة أحداث الشغب والعنف التي وقعت في مدينته العاصمة الأيرلندية الشمالية بلفاست عام 1969، عندما كان طفلاً.
«بلفاست» فيلم مؤثر أكثر من «ليكوريش بيتزا»، لأنه تجربة شخصية خالية من الخيال، وتحكى من وجهة نظر طفل لا يفهم لماذا يتقاتل طرفان في مدينته العزيزة على قلبه، ولا يعلم لماذا يجب على عائلته أن تنحاز لطرف ضد الآخر، ولا يعلم لماذا تقاتل طائفة دينية طائفة أخرى.
هناك كثير من الأفلام التي تناولت أحداث أيرلندا التي يطلق عليها اسم The Troubles أو المشكلات. معظمها تناول الموضوع من وجهة نظر عنيفة من خلال الحرب الأهلية هناك أو دينية ولإدانة الجيش الجمهوري الأيرلندي وجناحه السياسي (شين فين)، اللذين هدفا إلى الانفصال عن بريطانيا وتوحيد الجزيرة الأيرلندية.
سيرة ذاتية
في «بلفاست»، الكاتب والمخرج برانا وبعد ابتعاده كثيراً عن مسرحيات شكسبير، وجد منفذاً جديداً لهذه التراجيدية والمجتمع المحطم. «بلفاست» قصة نشوء طفل عمره تسعة أعوام في خضم تلك الأحداث الكئيبة. أو بإمكاننا القول إن الفيلم قصة سيرة ذاتية لبرانا تتناول طفولته.
يؤدي شخصية برانا في الفيلم الطفل الجديد على الساحة جود هيل، واسمه في الفيلم بادي، الذي يعيش في حي مختلط من المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت في بلفاست. لكن في أغسطس 1969 بدأت «المشكلات» بانفجار تبعته أحداث شغب.
من خلال عيون بادي تبدو الأحداث مخيفة وفوضوية، وهي تحطم هدوء وسكينة الحي. يتحول الشارع الذي يلعب فيه مع أصدقائه إلى منطقة حرب. لا نرى محاضرات سياسية في الفيلم، ولا حتى تاريخاً، كل ما نراه تساؤلات: لماذا تتقاتل الطائفتان؟ ماذا حدث للتسامح والوئام اللذين كانا سائدين قبل تفجر الأحداث؟ وما الفرق أصلاً بين الطائفتين؟
الفرق حسب بادي أن الكاثوليك هم أولئك الذين يعترفون بآثامهم للقسيس في الكنيسة، والبروتستانت هم أولئك الذين يلقون خطباً دينية تحرض على العنف، علماً بأن برانا من البروتستانت، ولم ينحز لطائفته، والتزم بالقصة من وجهة نظر محايدة تناصر التهدئة والتسامح.
معنى الكراهية
يعيش بادي مع والدته (كاترينا بالف) ووالده (جيمي دورنان) وشقيقه الأكبر ويل (لويس مكاسكي). يعمل والده في إنجلترا، ويأتي إلى المنزل في إجازات نهاية الأسبوع. يعتقد والد بادي بوجهة نظر مسالمة رافضة للعنف ضد جيرانه الكاثوليك، لكن ذلك لا يرضي زعيم العصابة الذي تبنى وجهة نظر: إما معنا أو ضدنا. يقرر الوالد أن ينتقل للعيش في إنجلترا ليحمي عائلته؛ لكن ذلك ليس قراراً سهلاً بسبب تعلقهم بمدينتهم، خصوصاً تعلق بادي بجديه (جودي دينش وكيران هايندز) وقربه الشديد منهما.
«بلفاست» يسرد مثل ألبوم صور ذكريات. رغم صعوبة تجاهل «المشكلات» - فهي خلفية الفيلم التي تقحم نفسها إلى المقدمة - لكن برانا يركز على قصة عائلته ومجتمعه والعناصر الأخرى الصغيرة التي شكلت طفولته.
ربما برانا نفسه استلهم فكرة العمل من فيلم المخرج جون بورمان، بعنوان «أمل ومجد» عام 1987، والذي يحكي قصته كطفل في التاسعة - أي مثل برانا - أثناء الحرب العالمية الثانية.
يعي بادي معنى الكراهية عند مشاهدته والديه وهما يتعاملان مع الميليشيات، في الوقت نفسه، فإنه يقع في حب فتاة. بالإضافة إلى علاقاته الوثيقة بوالديه وجديه، فإن بادي يقع في غرام فتاة منطقته (أوليف تينانت)، ويعرض عليها المساعدة في مشروع مدرسي بعد تشجيع من جده ودهشة جدته التي تجلس في الخلفية، وتنظر إليهما باستغراب.
بالأبيض والأسود
«بلفاست» مصور بالأبيض والأسود، لكن هناك لحظات صورها برانا بالألوان، لغرض جذب أعيننا إليها. أول مشهد يأتي في البداية فبعد أن نرى مناظر من مدينة بلفاست الحديثة بالألوان في مقدمة الفيلم، تتسلق الكاميرا حائطاً عليه رسومات ملوّنة، وتقفز خلفه إلى شارع لينتقل الزمن 52 عاماً إلى الماضي، ويتحول المشهد في ثوان بالأبيض والأسود، وهذا ربما أجمل وأذكى مشهد في الفيلم فنياً.
المشهدان الملونان الثاني والثالث، كلاهما لقطات في السينما، إذ نرى بادي مع عائلته يشاهدون فيلم «مليون سنة قبل الميلاد» عام 1966، و«Chitty Chitty Bang Bang» عام 1968. كما تظهر مقاطع من أفلام أخرى بالأبيض والأسود، مثل «الرجل الذي قتل ليبيرتي فالانس» 1962 وHigh Noon عام 1952.
كما يوظف برانا مواجهة فيلم High Noon الشهيرة لتتوازى مع مواجهات الشوارع في بلفاست، لكنها مقارنة غير موفقة ومقحمة. المشهد الملوّن الأخير لمسرحية «كريسماس كارول»، وفيه تظهر المسرحية بالألوان، لكن جمهورها يبقى في الأبيض والأسود، قد يرمز مشهد المسرحية لشغف برانا بالمسرح وبدايته الفنية.
الفيلم جميل جداً، ويتمتع بقيمة فنية عالية، لكنه ليس مثالياً؛ إذ تبقى مشكلة التصوير الرقمي النظيف مثل اللعنة على الأبيض والأسود، وتفقده صدقيته وتنزع عنه ما يسميه عشاق الأبيض والأسود «غبار الماضي».
المشكلة الثانية اعتماد الفيلم بشكل مبالغ فيه على موسيقى الأيرلندي فان موريسون، إذ يضم ثماني أغان من تلك الحقبة، إضافة إلى أغنية جديدة.
لكن هذه المشكلات ليست سبباً لعدم مشاهدة «بلفاست»، بل العكس فهذا فيلم جميل ومُرضٍ للجماهير وملامس للقلوب، وهو الفيلم الأقرب إلى قلب وروح برانا، وهو، بلا شك، أحد أفضل أفلام عام 2021.
نهاية
انتهت الحرب الأهلية الأيرلندية في أبريل 1998 باتفاق الجمعة العظيمة، الذي رعاه الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، ورمى بثقله فيه حتى تكللت جهوده بالنجاح، وأصبح مضرب مثل لدبلوماسية كلينتون لإحلال السلام في القارة الأوروبية.
• 8 أغانٍ من الحقبة التي يدور فيها، إضافة إلى أغنية جديدة يتضمنها العمل.
• لا نرى محاضرات سياسية في الفيلم، ولا حتى تاريخاً، كل ما نراه تساؤلات: لماذا تتقاتل الطائفتان؟ وماذا حدث للتسامح والوئام اللذين كانا سائدين؟
• الفيلم يتمتع بقيمة فنية عالية، لكنه ليس مثالياً؛ إذ تبقى مشكلة التصوير الرقمي النظيف مثل اللعنة على الأبيض والأسود وتفقده صدقيته.