«عيد ميلاد ليلى» يضيء شموع الفلسطيني و«حسيبة» يؤنث دمشق
تلاحق الأسطر التالية ثلاثة أفلام عرضت ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثانية لمهرجان الشرق الأوسط ، في أبوظبي بحيث تمضي خلف جديد المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي «عيد ميلاد ليلى» الذي عرض أمس، و«حسيبة» آخر انتاجات المؤسسة العامة للسينما في سورية، وثالث أفلام المخرج المعروف ريمون بطرس، مضافاَ إليهما (خزي) للمخرج الاسترالي ستيف جاكوبز، الذي دخل المسابقة أول من أمس فقط، بعد انسحاب فيلم (دم ثائر) للايطالي ماركو توليو جيوردانا، من دون إيضاح للأسباب التي أدت إلى هذا التغيير المفاجئ وإيجاد البديل مباشرة من فيلم يفترض أنه كان خارج المسابقة، بحيث انتقل «خزي» إليها من قسم «مهرجان المهرجانات».
إن كان مشهرواي في آخر أفلامه «انتظار» قد خرج إلى المخيمات مقارباً الشتات الفلسطيني، وراصداً حالة الانتظار الطويل التي يعيشها شعب بأكمله، فإنه في «عيد ميلاد ليلى» يعود إلى الداخل، في محاولة لتوثيق الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني، وعلى شيء من الانتظار أيضاً، الذي له أن يكون هنا أسلوب عيش يصطدم بكل أنواع الانتظارات، لا بل يتخطى ذلك إلى المشي على حافة الهلاك إن صحت الكلمة.
يتمحور الفيلم حول شخصية أبو ليلى التي يجسدها باقتدار المخرج والممثل محمد بكري، والذي يكون قاضياً ينتظر تعيينه الخاضع لمزاج الوزارات المتعاقبة، وحال الفوضى التي تعيشها مؤسسات السلطة الفلسطينية. كما سيضيء الفيلم مناخاً كاملاً من الفوضى تسود مجتمعاً أنهكه الاحتلال الاسرائيلي، والانقسام الفلسطيني، والوضع الاقتصادي الصعب.
كل ما سيحمله الفيلم سيكون على شيء من الحياة اليومية لأبو ليلى، والذي لا جديد فيه إلا أن هذا اليوم هو عيد ميلاد ابنته الوحيد، وبالتالي فإن عليه احضار كعكة وشموع وهدية، وعدم الذهاب إلى الحواجز لئلا يتورط بما يؤخر عودته إلى البيت.
أبو ليلى وبانتظار تعيينه يعمل سائق تاكسي، وكما هو معروف فإن مساحة التاكسي ستكون مجالاً حياً لمعاينة نماذج من الواقع، وفتح الباب على مصراعية لتقديم كل ما يشكل شاغل مستقليه. أبو ليلى مصر على النظام رغم أن كل ما حوله فوضى، يستخدم حزام الأمان، لا يقبل نقل المسلحين عى الرغم أن «نص البلد مسلح والنص التاني ما معو يدفع» كما يقول له أحد المسلحين، كما أن الشرطي قد يوقفه لا لشيء إلا ليسأله بكم يبيع سيارته.
هذا هو يوم أبو ليلى العادي الذي سيصادف قصفاً إسرائيلياً واستخدام سيارته لنقل المصابين، ومن ثم نقله لامرأة تحمل ابنها المقتول في حضنها، وغير ذلك من مشاهدات تجعله فيلماً على الطريق الذي يمضي به إلى لحظة انفجار عارمة، حين يجد سيارة شرطة متوقفة أمامه ويستخدم مكبر الصوت مخاطباً الطائرات الاسرائيلية من فوق صارخاً بهم «حلّو عنا» وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسلحين. ينجح أبو ليلى في النهاية بالاحتفال بعيد ميلاد ابنته، ويجمع الهدية والورود مما صادفه في يومه، وحين تسأله زوجته (أرين عماري) كيف كان يومه، فيجيب: عادي، فالمعاناة يومية، لكن ومع ذلك فإن أبو ليلى سيحتفل بعيد ميلاد ابنته كأي انسان على سطح هذا الكوكب.
«حسيبة»
الانتقال إلى فيلم المخرج السوري ريمون بطرس «حسيبة» الذي عرض أول من أمس، سيضعنا في دمشق في الفترة الممتدة من عام 1927 وصولاً إلى الخمسينات، وكل ما حملته رواية خيري الذهبي المأخوذ عنها، في رصد لما يمكن أن تكون حسيبة مجازاً له، بمعنى كونها معبراً وتكثيفاً للمرأة الدمشقية الفاعلة في تلك المرحلة، أي حسيبة التي جسدت دورها سلاف فواخرجي ابنة الثائر صياح المتنقل من ثورة إلى أخرى على الاحتلال الفرنسي لسورية، والذي كانت تعيش إلى جانبه وتتنقل معه مثلها مثل أي ثائر (ذكر)، تقاتل وتذخّر وغير ذلك مما يجعلها في وضع استثنائي. يبدأ الفيلم من نهاية الثورة في القطيفة واضطرار صياح إلى العودة إلى دمشق التي لا يملك فيها بيتاً، ليعيش عند ابن خالته (سليم صبري)، ومعه حسيبة، وليمضي الفيلم في رصد لتحولات دراماتيكية تعصف بشخصياته وعلى رأسها حسيبة، وإضاءة عودة صياح إلى الثورة، لكن في فلسطين هذه المرة، كونه لا يعرف أن يكون إلا ما كان عليه دائماً، وليستشهد هناك، بينما تتزوج حسيبة ابن خالة والدها، وتمارس دور الزوجة التي لها أن تأتي بمولد ذكر تتحالف الأقدار ألا يعيش أو يولد. ومع وفاة زوجها تنتقل إلى التجارة ومن ثم الصناعة، ممارسة مع ابنتها وصديقتها كل ما يجعلها على قدر متساو مع الرجل.
هذا تلخيص سريع ومختصر لأحداث الفيلم الذي يشكل رهانه الأساس الاقتراب من عوالم المرأة في تلك المرحلة، وتصوير عوالمها السحرية والواقعية، والاقتراب من الحب والشهوة والألم والخوف النسوي، وغير ذلك مما قدمه الفيلم عبر مستويات متعددة من النساء، وتجاور ذلك مع عناصر غيبية مثل «شيخ البحرة»، و«الحجاب»، والمعطيات السياسية والاقتصادية في تلك المرحلة.
«خزي»
نصل نهاية إلى فيلم (خزي) للأسترالي جوزيف جاكوبز والمأخوذ أيضاً عن رواية شهيرة بالاسم نفسه لصاحب «نوبل» الكاتب الجنوب إفريقي جي. إم. كوتزي، ولنكون مع هذا الفيلم في حضرة جون مالكوفيتش وهو يجسد شخصية البروفسور ديفيد، ونزوته التي لا يمتلك أمامها إلا أن يستسلم لها أمام إحدى طالباته، ليجد خلاصه بعد استقالته من التعليم الجامعي، بالعيش لدى ابنته المعزولة تماماً في الريف مع كلابها.
فيلم «خزي» يلاحق ديفيد من الداخل والعمق، يضع عشقه للشاعر بايرون بموازاة شهواته، يتركه عند ابنته يكتشف مصيرها العجيب، بعد اغتصابها على يد ثلاثة فتية زنوج، وإصرارها على مواصلة ما كانت عليه، مع احتفاظها بجنين استقر في بطنها بعد تلك الحادثة، كما يضيء الفيلم المفاهيم الاجتماعية الخاصة التي تحكم علاقة الأبيض بالأسود في جنوب إفريقيا، والخط الفاصل بين هذا التجاور الذي لا يفهمه ديفيد.
فيلم جاكوبز لا تنقصه الدراما التصاعدية، ولا التجسيد الخاص لشخصية ديفيد كما كتبها كوتزي، لا بل إنه(أي جاكوبز) يحكم قبضته على كل خيوط فيلمه السردية والبصرية، لنكون أمام فيلم يضعنا مباشرة أمام شخصيات استثنائية تتحرك في مجتمع على حافة الانفجار في أي لحظة.
وثيقة بصرية
يمكن الحديث عن فيلم «حسيبة» للمخرج ريمون بطرس بوصفه رحلة بصرية تحتكم على قدر كبير من الجمال، ومواكبة اللقطات المصوغة بحنكة لأحداث كثيرة ومكثفة، تجعل من مصائر الشخصيات يتدافع بعضها خلف بعض من دون أن تمهلنا لالتقاط أنفاسنا، ولنكون في صدد وثيقة بصرية عن دمشق بدايات القرن الماضي، مع تأكيد أن الموسيقى التصويرية أثقلت على درامية الفيلم، المحتكم أصلاً إلى جرعة دراما كبيرة قادمة من الوفاء لأحداث الرواية المأخوذ عنها.