شوقي عبدالأمير.. «يـــوم في بغــــداد» للبعيــد عنـــها
عندما تتكثف الأحزان، كما هي الأحزان العراقية الآن، لن يكون من المستغرب ان تكون زيارة ليوم واحد يقوم بها إلى بغداد عراقي ابتعد عنها طويلاً؛ ذات قدرة على ان تفيض لتملأ كتاباً في نحو 160 صفحة من الذكريات والدموع والخوف والفخر بالإنسان العراقي رغم كل ويلاته. انه كتاب الشاعر العراقي شوقي عبدالأمير الذي حمل عنوان «يوم في بغداد 19-10-2007». الا ان هناك عنواناً آخر قد يصلح بديلاً للعنوان المشار اليه، الا وهو الوصف الذي اطلقه على هذا «اليوم» في كلمة الإهداء التي خطها عبدالأمير بقلمه. فقد كتب الشاعر الإهداء وضمنه إشارة الى «يوم في جحيم العراق». صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 159 صفحة متوسطة القطع. تفاصيل الأحزان والموت كثيرة وغريبة ورهيبة. إلا أن عبدالامير ربما استطاع اختصار الكثير بهذا القول «شارع الرشيد.. لا قطعاً لا. ارفض ان ارى. ارفض ان اسمع شيئا من هذا. لن اقتنع ولن اكرر هذه الكلمة ابدا.
لا لم ار الرشيد ولم يكن شارعا ولا رشيدا بشيء.. لا لم أمرّ من هنا يوماً ولم أحترق تحت شمس بغداد وانا ادوسه من رأسه حتى أخمص قدميه. من قال هذا.. إن ما أرى الآن ليس الا مشهداً له علاقة بمدينة مندثرة احرقها الغزاة قبل اكثر من 20 قرناً. لا يا صديقي لسنا في شارع الرشيد، ان سائق السيارة بالتأكيد قادنا الى موقع نكتشفه للمرة الأولى ربما هي «سبر» المدينة التي احرقها الغزاة قبل 5000 عام، او اي مدينة كانت قائمة ثم لعنت ومسخت ونحن نهبط فوقها الآن مثل كائنات حلمية أسطورية». يتفقد الشاعر اماكن عرفها في السابق، الموت والخوف مسيطران.
لم يستطع زيارة شقيقه بعد زمن من البعد لأن الشقيق أبلغه أن منطقتهم خطرة والخروج الى ملاقاته خطر، وان عليه الا يأتي هو الى الحي لأنه يبدو غريباً الآن وقد يقضي ذلك عليه. يتحدث في شوقه وحزنه عن دجلة فيقول «هكذا مات دجلة او هكذا يموت دجلة. فأنت تراه اليوم يرفس في سريره مثل جسد مائي يحتضر.
سرقت امواجه وجنياته وصيادوه، وهجرت ضفافه وأحرقت لياليه وشرد اهله ومريدوه.. ماذا بقي من نهر بغداد». وعبدالأمير الذي اكمل دراسته في السوربون في فرنسا، عمل في السلك الدبلوماسي وكخبير ثقافي لمنظمة اليونسكو، وأدار مشروعات ثقافية عديدة منها مؤسسة «كتاب في جريدة». ومن خلال نزهته اليومية في زمن مضى، وعبر تذكرها، وهو في بيروت ينطلق عبدالامير في تحليل تكوين من يعيشون قرب الانهار والذين يعيشون قرب البحار. يقول «المعاني التي تتدفق من الامتداد اللانهائي للبحر تختلف، بل تتناقض مع المعاني التي تواكب مجرى النهر المحدد الاطراف والمصب. البحر مفتوح على المالانهاية والنهر مسور بالضفاف.
البحر رحيل دائم والنهر عبور الى الضفة، وهكذا فإن ابناء المدن التي تعيش على الأنهار يختلفون في تكوينهم الداخلي والنفسي الواعي واللاواعي، فأبناء الشواطئ البحرية اكثر انفتاحاً على العالم من ابناء المدن النهرية الذين يبدون اكثر ارتياباً وخوفاً من الاغتراب والأسفار». ورغم كل شيء فعند الشاعر فخر ببغداد، يقول «وسط كل هذا التمزق والخوف من المجهول يرافقه انقطاع الكهرباء الدائم يومياً.
تفاجئني بغداد بأنها مازالت تواصل شكلاً من المقاومة العميقة، ليس عبر السلاح لكن عبر الاصرار على ممارسة دورها الثقافي من خلال ندوات ولقاءات بين مثقفين ومعارض وحفلات موسيقى ومهرجانات شعرية يحضرها اناس كثيرون لا يردعهم عن ممارسة حقهم هذا لا المسلحون ولا الطرقات المقطوعة ولا المفخخات».
تحدث مثلا بفخر عن اعمال كبيرة رائعة تقدمها «الاوركسترا السمفونية الوطنية العراقية»، لكبار الموسيقيين العالميين. وختم في هذا المجال بالقول بفخر «أتذكر ابن خلدون في «المقدمة» في باب حديثه عن الموسيقى من ان انحطاط الموسيقى هو مؤشر انحطاط كل حضارة، لأنها ربما الشاشة الأعمق للذات الإنسانية ومنها يبدأ الانهيار والسقوط، وفيها تتجلى كل مؤشرات الرقي والتدني في آن».