«سوناتا لتشرين».. رواية بلا خصوصية
حين يتصدى مبدع بقامة الكاتب المصري أسامة أنور عكاشة لرواية، فمن المتوقع أن تكون ذات نكهة خاصة، تضيف لرصيد كاتبها الوفير، لا أن تطرح منه، وتصب في النبع الذي تتجه صوبه إبداعاته، لا أن تنفر وتشرد في وادٍ قصي عن صاحبها.
فالمشاهد لأعمال عكاشة الدرامية، أو حتى الراصد لكتاباته الصحافية، يعرف أنه أمام مبدع حقيقي، صاحب عمق في طروحاته، وأسئلة مراوغة تثيرها أعماله، وإسقاطات تنتقد الهرم السياسي والاجتماعي من قمته حتى قاعدته، لكن رواية «سوناتا لتشرين» التي صدرت أخيراً عن دار العين المصرية، وتعرضها الدار في جناحها في معرض الشارقة للكتاب، والتي قال عكاشة في مقدمتها: «لم أستطع أبداً نسيان الحب الأول.. وظللت متشبّثاً بالأرض التي شهدت فجر موهبتي.. وحرصت على بقاء انتمائي الأول لأصولي الروائية والقصصية»، جاءت دون ذلك؛ حتى إنك لتستشعر بعد فراغك من قراءتها أنها غريبة عن صاحبها، وبعيدة تماماً عن خصوصية عالم أسامة أنور عكاشة الإبداعي.
البطل الرمادي
تدور معزوفة السوناتا حول صحافي خمسيني اعتزل حياته الأولى، ونفى قلمه - أو نُفي - عن عالمه الأثير، متحسراً منذ أسطر الرواية الأولى على ماضيه وحاضره ومستقبله، متسائلاً: «لماذا تأتي الأشياء الصحيحة في التوقيت الخطأ.. ولماذا تتحقق الأمنيات بعد فوات الأوان؟» وما أيقظ تلك الأسئلة هو لقاؤه أثناء مؤتمر إحدى طالباته في كلية الإعلام، والتي صارت صحافية مبتدئة تسعى لمعرفة سبب بُعد البطل عن «صاحبة الجلالة»، واكتفائه ببعض المقالات والمراسلات لمجلة ثقافية، ومغادرته القاهرة إلى الإسكندرية. وعبر أكثر من لقاء تصحو بعض المشاعر القديمة في قلب الصحافي (أشرف عفيفي) ويأتمن تلميذته على أسراره، ويفضي إليها ــ عبر شريطي تسجيل كان قد أعدهما ــ بقصته، شريطة ألاّ تلقاه بعدها.
تستمع الصحافية إلى قصة أشرف، وتلوّن فصول حياته بأكثر من لون، يغلب عليها الرمادي، فهو حيناً يتخطى سلّمه المهني على رقاب زملائه، وأحياناً فارساً يبحث عن المبدأ، وليس مجرد الشهرة، ويروي أشرف رحلة «صعوده إلى الهاوية» وتحقيقاته الصحافية، و«خبطاته» التي أوصلته إلى منصب رئيس تحرير، ومطاردته رموز فساد في المجتمع، وتصديه لأحد أباطرة السوق الذي حاول طيه بكل السبل، وفي جو ملبّد بالخيانة والترّصد من الكثيرين داخل مؤسسته الصحافية وخارجها، يستدرجه رجل الأعمال، عبر وثائق مفبركة تمده بها امرأة تعمل لديه، ويكمل اشرف حملته مستعيناً بتلك الوثائق، فيكون ثمن تنازل رجل الأعمال عن ملاحقة أشرف قضائياً نفي الأخير من رحاب «صاحبة الجلالة»، واعتزاله العمل الصحافي.
دبيب محبة أشرف سرى في قلب الصحافية الشابة خلال معايشتها لصوته، بعد ذلك تبحث عنه، وتعثر عليه، وتحاول أن تكون قشة الغريق إن لم تستطع أن تكون طوق النجاة، ويرفض اشرف أن يكمل معها، ويتشابك الماضي بالحاضر، وكثير من العقل ببعض الجنون، وتنتهي الحكاية بالوداع على رصيف قطار، حيث تعود الشابة إلى القاهرة، وأشرف إلى عزلة صَدَفته.
فجوات فنية
لعل أول انطباع يخرج به القارئ العادي لـ«سوناتا لتشرين»، لا الناقد المتخصص، أن اسامة أنور عكاشة كان على عجلة من أمره الإبداعي، وهو يسطر الرواية، حتى ضعفت نغمات السوناتا في بعض صفحاتها التي حوت تناقضات تشي بأن الكاتب لم يعش مع الرواية طويلاً، إذ نسي في وسطها ما ذكره في بدايتها، فرجل الفساد في البداية الطرفاوي، وفي بقية الحكاية الجرواني، والصديق الذي فتح طاقة نور يطل منها أشرف على العالم يلقاه ويعرض عليه العمل في أثناء لقائهما في قطار خلال الصفحات الأولى، ولكن في وسط الرواية والبطل في حالة تداعٍ يكون عرض العمل عبر الهاتف. وقسّم عكاشة الرواية إلى فصول ومشاهد صغيرة (28 مقطعاً) لم تستند إلى ضرورة، علاوة على الحبكة المثيرة في بعض المشاهد التي تحيل إلى جو العمل التلفزيوني المباشر حلبة الكاتب التي يعد فارسها البارز، مثل مشهد المرأة المختطفة و«البودي غاردات» المدججين بأسلحتهم، إضافة إلى الفجوات السردية، وحيرة الضمائر بين أكثر من راوٍ بشكل عشوائي غير فني. وحاول الكاتب أن يطرح مضامين كبيرة: محاربة الفساد، والحملات الكبرى ضد الظلم لبطل متأرجح في عالم أكثر تأرجحاً، لكن ذلك كان عبر كلمات وليس بأحداث تجذب القارئ إليها، واصطنع خلفية وردية عن قصة حب مبتورة بين خمسيني وعشرينية، لم توظف بشكل مناسب. ولم يختلف البناء اللغوي في الرواية، فهو من عوامل ضعفها رغم العنوان الشعري، وبعض المقاطع الوصفية التي حاولت أن تكون غنائية.
تهتز صورة الكاتب ــ إلى حد ما ــ في وجدان قرائه، حينما يركن إلى تاريخه الإبداعي، ظاناً أن رصيده القديم ـ ورصيد عكاشة ثري حقاً ـ سيشفع له، أو أن سطوة كلمته ستمهّد أفئدة قرائه أمام كل ما يكتب.
اسامة أنور عكاشة روائي وقاص وسيناريست مصري، صاحب نتاج وفير، له في الدراما التلفزيونية أكثر من 40 مسلسلاً، من أهمها: ليالي الحلمية، والراية البيضاء، والشهد والدموع، ورحلة أبو العلا البشري. ومن رواياته: جنة مجنون، ومنخفض الهند الموسمي، ووهج الصيف، وأوراق مسافر، وهمس البحر، وتاريخ خريف. بالإضافة إلى مسرحيات وأفلام سينمائية عدة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news