أورسون ويلز.. كأن الريح تحته

بورتريه لأورسون ويلز.

فجأة تبدو الحياة أعجوبة، ليس بالأفلام وحدها بل بصانعها، ذاك الواقف خلف الكاميرا، الذي سيضع لا محالة حياته فيها، في جوفها وهي تخرج باللقطات، وفي داخل كل واحدة منها جزء من روحه المتعثرة، من روحه التي تتوق لأن تنفلت من نفسها نحو فضاءات يخترعها ويبدعها ليضعها أمامنا.

هكذا مقدمة لها أن تكون نوعاً من الهجوم على شخصية المخرج الأميركي الشهير أورسون ويلز (1915 - 1985)، عفواً ليس المخرج فقط، بل الكاتب والممثل ومعد البرامج الإذاعية والتلفزيونية ومدير الشركة والمضارب في سوق الأسهم، وكل ما له أن يكون كما يقول هو «كنت دائماً أطمح أن أكون أكبر من الحياة، وهذا خطأ في طبيعتي».

ومع مواصلة الهجوم على ويلز، بمعنى مقاربته عوالمه التي لا يمكن الاقتراب منها بهدوء، بل بعنف وغضب له أن يكون بدافع العدوى، يكون الكتاب الصادر أخيراً عن منشورات وزارة الثقافة السورية «أورسون ويلز ـ قصص حياته» ترجمة عارف حديفة، مَعْبراً لنا إليه، وفي تتبع للقصص التي جمعها مؤلف الكتاب بيتر كونراد، ولنكون ونحن نقلّب صفحاته في صدد التعرف إلى أسطورة سينمائية، كما لا يخفى على أحد أفلام مثل «المواطن كين» أيقونة الأفلام على مر العصور، وغيرها من أفلام، سواء أكملها أم لم يكملها ويلز، وسواء اصطدمت بهواء استوديوهات هوليوود الخانقة التي كانت تقاتل طموحه، أو التي مضى يمثل فيها استجابة لمتطلبات تلك الاستوديوهات.

سندع أفلام ويلز جانباً على اعتبار أن الحديث هنا عن قصص حياته، والكتاب يمتد لأكثر من 400 صفحة من القطع الكبير، في سرد لها، من دون أن يغيب عنا حضور تلك الأفلام في تلك القصص. ويمكن لمن شاهدها أن يجدها نابعة منها وشخصيته القلقة الطامحة لابتلاع العالم، بحيث نخلص في نهاية الكتاب إلى اكتشاف مفاده أن الأسطورة ما يجنح إليها ويلز وليس التاريخ، رغم انغماسه الكلي في كل مشكلات عصره السياسية والفلسفية، فهو يؤمن إيماناً مطلقاً بما يقوله جاك كوكتو «التاريخ يبدأ بالحقيقة وينتهي بالأكاذيب، في حين أن الأسطورة تبدأ بالأكذوبة ثم تتقدم نحو الحقيقة».

ضعوا هذا القول نصب أعينكم لدى قراءة هذا الكتاب، لتجدوا أنكم تتعقبون تكوّن تلك الأسطورة، فهو بداية، وكما هو معروف كان ينسب نفسه إلى عباقرة العالم وفاتحيه، إلى ليوناردو دافنشي وشكسبير، أو نابليون وهتلر، و«لما نفد ما لديه من نماذج فائقة، مقدسة كانت أو رجيمة، توسل لقوى الطبيعة أن تفسره، وفي فعل الخلق رأى نفسه بئر نفط تلفظ ذهباً أسود».

لا يستقر ويلز على حقيقة ما كان عليه والداه اللذان تركاه يتيماً، عندما يقول إن والده انتحر بأن حرق نفسه، وغير ذلك من قصص كثيرة كان يغيرها حسب مخيلته، دفعت بيتر كونراد، مؤلف الكتاب، في الفصل المتعلق بنشأته، إلى اعتبار ويلز قد ولد من نفسه، ولد نفسه ورباها وراح يبتكر في مرحلة من مراحل حياته رحماً جديداً يخرج به إلى حياة جديدة، متنقلاً من مكان إلى آخر، بقدرة عجيبة على أن يبدد ميزانية فيلم كامل على متعه الخاصة، أو أن يسبب تحويل كتاب «حرب العوالم» إلى مسلسل إذاعي، حالة من الهلع في أميركا كونه دفع مواطنيه إلى الغرق في ايهامهم بأن سكان الفضاء في طريقهم لغزو الأرض.

قصص لا تنتهي عن مبدع «ميتافيزيقي» متحول الشخصية، «كأن الريح تحته»، قصص قد تسيء إليها أخطاء تحريرية حملها الكتاب، أو أخطاء بعض الأسماء والشخصيات لا مجال للخطأ فيها، كأن يتحول ايهاب شخصية رواية موبي ديك إلى «ايحاب» وفي أكثر من مرة.

تويتر