جنة فيليب هوفمان المؤقتة
حسناً يفعل فيليب هوفمان حين نجده متنقلاً بين دور وآخر، وعلى كل واحد منها توقيعه وتلك الضحكة التي لا تفارقه، وبالخفة نفسها التي لا يشي بها جسده.
مع هوفمان سيحضر في الحال كوفمان، والقصد هنا كاتب السيناريو الشهير تشارلي كوفمان (اختلاف بحرف واحد في الكنية)، الذي لم يجد إلا هوفمان ليمنحه دور البطولة في أول فيلم ينتقل فيه من الكتابة إلى الإخراج وحمل عنوان «نيويورك مجازاً» الذي عرض في المسابقة الرسمية في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» وجسد فيه هوفمان شخصية لها أن تكون قريبة منه كثيراً، كون كيدين كوترد، اسم تلك الشخصية، مخرجا وكاتبا مسرحيا له أن يحول العالم المحيط به في النهاية إلى مسرح، نشهد فيه فصول حياته المتعثرة وصراعات العالم من حوله.
وبما أن الحديث هنا سيقودنا إلى ميزة الأفلام الأميركية الرئيسة، ألا وهي السيناريو، فإن هوفمان قدّم العام الماضي دور بطولة آخر في فيلم «قبل أن يعرف الشيطان أنك ميت» إخراج سيدني لوميت وسيناريو كيلي مسترنسون، ولعل في ذلك الدور ما يغوي بتعقب السيناريو أولاً، والتقطيع المونتاجي الذي اتبعه لوميت لتقديم قصة جميلة ومحبوكة بعناية وشغف، تتمثل في عملية سطو.
سيقول المشاهد أو القارئ، وما الجديد في عملية سطو؟ وللإجابة عن هكذا سؤال، فإن غواية أخرى تحضر لدى استحضار هذا الفيلم تتمثل في نقله ورقياً، كون عملية السطو تلك تشكل نقطة التقاء لحيوات متعثرة ومتشابكة، وعلى قدر كبير من التلاقي والتنافر في آن معاً.
يقع السطو على محل مجوهرات، امرأة عجوز ورجل ملثم، والنتيجة كارثية، تتمكن العجوز من إطلاق النار على السارق فتصيبه فيطلق عليها النار بدوره، وتتمكن من إصابته بطلق ثان يخرج به من واجهة المحل، فإذا بسيارة متوقفة تكون في انتظاره، تمضي بعد ذلك مسرعة.
حركية فيلم «قبل أن يعرف الشيطان أنك ميت» تتمثل في تقسيمه إلى فصول معنونة كالتالي «قبل العملية بثلاثة أيام» و«قبلها بيوم» و«بعدها بأسبوع»، وغيرها من تقسيم زمني تتضح من خلاله حياة كل مشارك ومتأثر بعملية السطو، ولتتشكل القصة أمامنا رويداً، وتكون في النهاية كما يلي: آندي (هوفمان) الأخ الأكبر، الغارق في مشكلات مادية تتمثل في اختلاسه مبالغ مالية من الشركة العقارية التي يعمل فيها، يسأل أخاه الأصغر هانك (ايثان هوكي) القيام بعملية سطو، فيتردد هذا الأخير ويوافق تحت تأثير الضغوط المالية الكثيرة التي يخضع لها أيضاً، وليكون اكتشافنا أن عملية السطو تكون لمحل مجوهرات يملكه والداهما، فالأمر بالنسبة لأندي سليمٌ ولا يضر أحداً كونه يعرف أن المتجر مؤمّن، كما أنه يسأل هانك استعمال سلاح مزيف.
الأمر بمنتهى البساطة، لكن النتائج كارثية، فهانك يستعين برفيق له، ويسأله القيام بعملية السطو بدلاً عنه، على أن ينتظره في الخارج، لكن يحدث ما يحدث من تبادل لإطلاق النار، وتحديداً أن رفيق هانك يكون لديه مسدس حقيقي، كما أن من يكون في المتجر ليست السيدة التي تعمل لدى والديّ أندي وهانك، بل أمهما التي تلقى حتفها.
نحن إذاً أمام جريمة تحمل ما تحمل من التباس وتأنيب، فمن قتل هو أم منفذ العملية ومخططها، وعليه فإن ما يتبع ذلك يكون متشابكاً ومتوتراً إلى أبعد حد، إذ تتكشف علاقة آندي بأهله، إذ يقول لوالده إنه يشك أحياناً في أنه ولده، كما يتضح حجم الفساد والضياع الذي يعيشه آندي، وبالتالي غرقه بسلسلة من الجرائم الأخرى في محاولته تغطية جريمته الأولى ومشكلاته المالية التي تكون وصلت خط اللا عودة. وعلى خط موازٍ يكون هانك مثالاً للفشل في كل شيء، فهو الابن المدلل، الذي يقيم علاقة مع زوجة أخيه آندي، وصولاً إلى الأب الذي يبدأ بتعقب آندي ومن ثم قتله في نهاية الفيلم.
أزمة شخصيات الفيلم بادية بقوة وعمق، وليس لعملية السطو إلا أن تكون المفصل الذي يؤدي إلى تداعي كل شيء وإتاحة الفرصة أمام القابع في أعماق كل شخصية أن يظهر، ويأخذها إلى أفعال لم تكن في الوارد، لكنها الجاهزية النفسية ومخلفات حياة اجتماعية مأزومة تجعل من المستحيل حقيقةً قاتلة.
يصلح عنوان الفيلم توصيفا دقيقا له، فنحن نشاهد نصف ساعة في الجنة يمكن أن يعيشها الإنسان قبل أن يعرف الشيطان أنه ميت، بمعنى أن الجنة مؤقتة وكل ما عداها جحيم.