«هي فوضى».. جمهورية الديكتاتور الصغير
أخيراً جاء فيلم المخرج الراحل يوسف شاهين ومعه خالد يوسف «هي فوضى» إلى دور العرض المحلية. ولعل الأفلام العربية، وغيرها مما يترقبه المشاهد، خاضعة لسرعة سلحفائية تجعلها في آخر القائمة، أو أنها تستقر على الشاشة المحلية بعد أن تكون قد عرضت في كل بقاع الأرض.
المساحة متروكة لأفلام مثل «عين النسر» التي كانت ومازالت مصوبة على شباك التذاكر، هذا مع الانتباه إلى أن كل أسبوع سينمائي صار يحمل لنا ثلاثة أفلام بوليوودية، ما يدفعنا للقول «يا له من نعيم».
قبل التقديم لفيلم «هي فوضى» تجدر الإشارة إلى أن هذا الفيلم مخصص للعرب فقط، ما دام لا يحمل ترجمة لا للإنجليزية ولا غيرها، وعليه إن كنت تفكر في دعوة أي ناطق بغير العربية فلا تفعل، فهذا الأمر متعثر مادام فيلم «هي فوضى»، حال كل الأفلام العربية التي تعرض في الدولة؛ خالٍ من أي ترجمة.
يبدو أن القول إن «هي فوضى» هو آخر ما توصل إليه شاهين قبل مفارقته هذه الحياة، فوضى ونص، فوضى لها أن تطال كل شيء في بعثرة للقيم والمفاهيم، وتعويم لسلطات لا يمكن توصيفها ما دامت طارئة من قبل أعتى فكر مستقبلي. إنها مساحة من الفوضى تتيح لأمين الشرطة حاتم (خالد صالح) أن يتحكم في العباد ويفرض عليهم الأتاوات وكل أنواع الظلم والتحكم بمصائر عيشهم ومماتهم، وأن يكون قادراً على أن يتحول إلى تجسيد مصغر للديكتاتور، ولتمنحه الفوضى ما يتخطى قدرات الديكتاتور الأكبر، كونه، ومن مثله، جنود الفساد والتفسخ المجهولين.
مقاربة فيلم يوسف شاهين وخالد يوسف على هذا النحو، لها أن تكون الزاوية التي قاربا فيها الواقع المصري، الذي له أن يكون بشكل أو آخر كشافاً لواقع عربي كان ومازال يجد في مصر استشرافاً للمقبل سلباً أو ايجاباً، ولعل ما سيخلص إليه المشاهد يتمثل في أن مقولة الفيلم في النهاية ليس لها إلا أن تكون في سياق ثوري، لتكون الثورة بمعناه المعروف والتقليدي الإجابة الوحيدة التي يملكها شاهين حيال الواقع، أو وصيته السينمائية الأخيرة.
يمكن لفيلم «هي فوضى»، الذي كتبه ناصر عبدالرحمن، حول حاتم الممتلك لكل المقومات الدرامية، أن يكون أولاً مجازاً عن واقع كامل، وشخصية تحتمل الكثير من التناقضات والمتغيرات التي أوصلها خالد صالح بأداء مميز، جعل من أمين الشرطة هذا وحشاً كاسراً يتحكم في السجناء، كما لو أنهم من أملاكه الخاصة، فهو يتحكم في كل شيء، وله في طفولته ما يشكّل منبعاً نفسياً لسلوكياته، كما أنه يمارس دوراً متحكماً في رؤسائه، فالكل فاسد في النهاية، وحاتم يعرف جيداً أنه يمسك بخيوط اللعبة.
لكن للمفارقة فإن حاتم الشره والمرتشي والمتوحش، عاشق مرهف، غارق في حبه لجارته نور (منة شلبي) المُدرسة في مَدرسة الناظرة وداد (هالة صدقي) التي تربطها بها علاقة خاصة، يمكن لوداد أن تكون فيها معادلاً لحنين إلى زمن مضى، أو قيم اختفت، ومعها ابنها الوحيد شريف (يوسف الشريف) وكيل النيابة الذي تربطه علاقة مع فتاة لا تشبهه، ولا تمتّ بصلة لكل العوالم التي تمثلها والدته وداد.
يمضي الفيلم برشاقة، ويتصاعد درامياً مع تصاعد شهوة حاتم لنور التي يغتصبها في النهاية، ليمسي إثبات هذه الواقعة ضرباً من المستحيل أمام قدرة حاتم الهائلة على حماية نفسه وتطويع كل شيء لخدمته، وعليه لن يكون الحل أمام مناعة حاتم إلا بتمرد كل من ظلمهم عليه، واكتشاف أمره في النهاية من قبل شريف، وغير ذلك من نهاية يفترض أنها حتمية لمن هم مثل حاتم.
نهاية الفيلم جاءت محمّلة بالكثير، ولعل ارتباكاً يطالها بشكل أو آخر، فكل ما سبقها كان وفياً لبناء الشخصيات، وتشابك خيوطها الدرامية يأتي بمنطقية مفرطة، لكن في النهاية الكثير مما يتلعثم، إنها المقولة، أو فجاجة واقع له أن يصيب النهاية بالعدوى.
يبقى التنويه أن الفيلم لم يوفّر شيئاً ليوصل لنا فداحة ما وصل إليه الواقع، وجاءت لقطات كثيرة ومشاهد عابرة خارج السياق الدرامي للفيلم في خدمة ذلك، كما أنه لم يستثن شيئاً: الشرطة تساوي القمع والتعذيب، الانتخابات تساوي التزوير والكذب، المدرسة تقابل انحدار التعليم، الفن والثقافة ألعوبة في أيدي الجهلة، ولتكون الفوضى اجتياحاً عارماً لكل شيء.